حين ضربت موجة الجفاف في النصف الثاني من القرن الماضي دول الحزام الأفريقي، نزح عشرات الآلاف من المواطنين بمواشيهم نحو المناطق الغنية بيئياً، وأقام الآلاف منهم حول محمية الدندر (جنوب شرقي السودان)، وأنشأوا عشرات القرى داخل المحمية وحولها.
وعام 2000، أطلق المجلس الأعلى للبيئة والموارد الطبيعية مع الجمعية السودانية لحماية البيئة حملة توعية لبناء قاعدة معرفية حول أهمية التنوع الإحيائي، وضرورة مشاركة المواطن في الحفاظ على الموارد الطبيعية، في إطار نشاطات مشروع تنمية المحمية وتطويرها. وكان من الخطأ أن يعدّ الفريق منشورات المشروع وتضمينها مفردة "تطوير" والتي تنقلب على ألسنتهم إلى "تتوير" (الإقصاء الجغرافي) رافعة من درجات حساسية موقفهم من الحكومة (في ذلك الوقت)، وإرهاصات طردهم، أو تجميعهم في قرية كبيرة بعيداً عن محيط المحمية، لنواجه برفض الدخول إلى بعض تلك القرى.
تتوير في الدارجة السودانية تعني الإقصاء الجغرافي، والقسر على مبارحة المكان، أو حالة الجلوس أو الرقاد، حتى أن "توره من النوم" تعني أيقظه، ولا وجود للمفردة في العربية إلا في أصل الفعل "تأر" صاحبه، أي زجره. وفهم السكان أننا بصدد إبعادهم من المكان لا تنويرهم وإرشادهم وطلب عونهم في بناء سياج اجتماعي حول المحمية. أما السكان داخل محمية قرى الهوج، فقد وجدناهم أكثر معرفة بحدود نشاطاتهم كونهم أكثر التصاقاً بقوات الحماية، كما أن زراعتهم ورعيهم لا تتعدى المنطقة العازلة والتي تقل فيها حركة الحيوانات البرية.
في وقت لاحق تزايد عدد السكان، وتوقف المشروع، وزادت تعديات المسؤولين (عسكريون ومدنيون)، وتمددت المشاريع الزراعية حتى كاد الأمر أن يخرج عن السيطرة، كما حدث في محمية نغورو نغورو شمالي تنزانيا المعروفة في جميع أنحاء العالم بمناظرها الطبيعية الخلابة والحياة البرية، والمدرجة على قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو). واتُفق على السماح للإنسان والحيوان بالعيش معاً فيها، لكن الحضور البشري في المحمية، كما تقول الرئيسة التنزانية سامية صولحو حسن "خرج عن السيطرة". وقالت في إبريل/ نيسان الماضي إن "عدد السكان ارتفع من ثمانية آلاف عام 1959 إلى أكثر من مائة ألف في العام الماضي، ما يهدد الحياة البرية".
ظل الرعاة والناشطون المحليون يعارضون أي ترحيل شعب الماساي (مجموعة عرقية نيلية وهم شبه رُحّل يتمركزون في كينيا وشمالي تنزانيا) من المحمية، لأن السلطات كانت قد سمحت لمجتمعات الرعاة بالعيش في المتنزهات الوطنية ورعي ماشيتهم جنباً إلى جنب مع الحيوانات البرية، بيد أن جدلاً بدأ يستعر منذ شهور بسبب تفاقم المشكلات مع الحيوانات الوحشية التي باتت تهاجم الناس والماشية والمحاصيل. وفي أغسطس/ آب الماضي، قتلت أسود ثلاثة أطفال أثناء بحثهم عن مواشٍ مفقودة. وفي التاسع من مارس/ آذار الحالي، قُتل رجل من الماساي يبلغ من العمر 45 عاماً، بعدما هاجم فيل مجموعة من السكان المحليين كانوا يبحثون عن الحطب. فهل يتم تعديل القوانين هنا وهناك، ويُفصل بين البشر والحيوانات حفاظاً على الحياة، والتنوّع الاحيائي والموارد؟
(متخصص في شؤون البيئة)