انفراجة جديدة في ملف النساء والأطفال الأوروبيين المحتجزين في مخيمات "قسد" سجلتها الدنمارك، إذ تسعى كوبنهاغن إلى استعادة بعضهم، بعد بروز تقرير استخباراتي بهذا الشأن، رغم الدعاية اليمينية الشرسة ضدّ الخطوة
ربما احتاج الأمر إلى تحذير "تقرير أمني سري" لتعيد الدنمارك النظر في سياستها المتصلبة بشأن مواطنيها، ومعظمهم (19) من الأطفال وبضع الأمهات، ممن يحتجزون في مخيمي الهول والروج، بإدارة وإشراف مليشيات قوات سورية الديمقراطية "قسد" في شمال شرق سورية.
أشارت الصحافة الدنماركية، إلى أنّ التقرير الاستخباري دفع حكومة يسار الوسط، التي لم يختلف موقفها الرافض لاستعادة مواطنيها الصغار والأمهات عن اليمين المتشدد، إلى عقد "اجتماع عاجل لممثلي الأحزاب البرلمانية، لمناقشة تسريع استعادة سيدتين دنماركيتين (من الإثنية الدنماركية وليستا من أصول مهاجرة) مع أطفالهما". التقرير الذي أشرف على إعداده جهاز الاستخبارات العسكرية، المسؤول عن الأعمال الأمنية خارج الحدود، جاء بمثابة "صبّ ماء بارد على رأس الحكومة"، وفقاً لما ذهبت إليه صحيفة "بيرلنغسكا". قيّم التقرير الأمني مخاطر بقاء السيدتين والأطفال، ومنهم طفلة في الرابعة سبق أن أثيرت قضيتها بسبب توصل خبراء علم نفس إلى أنّها بحاجة إلى تدخّل عاجل بسبب أمراض نفسية خطيرة أصيبت بها، من دون أن يحرك ذلك ساكناً في تصلّب السياسيين برفض تحمّل مسؤولية إنقاذها من معسكر الهول، الذي بات صيته محلياً يثير جدلاً وغضباً على وسائل التواصل الاجتماعي.
ويقود اليمين المتطرف حملة دعائية وجدها كثيرون "مقززة ومثيرة للاشمئزاز"، حين تساءل قادة "حزب الشعب الدنماركي": "هل هؤلاء دنماركيون؟ ليس كلّ من حمل جوازاً يعتبر دنماركياً، بل هؤلاء إرهابيون". وعلى الرغم مما تسبب به ملصق الحزب من عاصفة نقاش، لم يتراجع رئيس الحزب، كريستيان ثول دال، عن مشاركته والإصرار على ربط الأطفال بالإرهاب. ولأنّ القضية تتعلق الآن بدنماركيتين "إثنياً"، فإنّ اتهامات "الخيانة الوطنية" ما زالت هي المهيمنة على الخطاب الشعبوي الذي يطالب أساساً بإسقاط جنسية الأطفال الـ19 وأمهاتهم. ويطالب اليسار الدنماركي، ومنظمات حقوقية محلية، بانتهاج كوبنهاغن "المثال الفنلندي" في جلب الأمهات والأطفال، باعتبار "محاسبة الأمهات أمام القضاء المحلي لتبيان حيثيات سفرهن إلى معاقل تنظيم داعش، كما تقديم الرعاية للصغار لمساعدتهم في التأقلم مجدداً مع الحياة، بدلاً من تركهم عرضة للصدمات واحتمال اكتساب مواقف متطرفة ضد المجتمعات التي ترفضهم"، وفقاً لأحزاب "اللائحة الموحدة" و"الشعب الاشتراكي" اليساريين، و"راديكال فينسترا" من يسار الوسط، في مواقف جماعية خلال نهاية الأسبوع الماضي، وتهدد بسحب الأغلبية البرلمانية عن حكومة رئيسة الوزراء ميتا فريدركسن، إذا لم تستجب لاستعادة المواطنين قبل الصيف.
ومع تزايد الضغوط الشعبية والإعلامية والسياسية على حكومة يسار الوسط، يبدو أنّ تقرير الاستخبارات العسكرية، مضافاً إلى تقارير أخرى من الاستخبارات المدنية، يقدم طوق نجاة لورطة حكومة كوبنهاغن، التي وصل انتقاد سياستها المتشددة إلى منظمات حقوقية، مثل العفو الدولية، التي نشرت إعلانات كبيرة على الطرقات تندد بتخلي الدنمارك عن مسؤولياتها. فمن الواضح أنّ طريقة تعامل "قسد" مع المحتجزات والقصّر، تثير قلقاً أمنياً من تعزيز الجنوح نحو التطرف أكثر، ما يصعّب، بمرور الوقت، المعالجة على الطريقة الدنماركية.
ويبدو أنّ قضية مراهق دنماركي الأصل، وهو ابن إحدى السيدتين، تثير مخاوف نقله من جانب "قسد" إلى ما يسمى "وحدة نزع ميول التطرف" التابعة لها، وهي طريقة لا تثير إعجاب متخصصين في علمي الاجتماع والنفس، وتثير شكوكاً في نتائجها العكسية، بعد توالي الشكوك من طريقة تصرّف "قسد" مع النساء والقصّر من الجنسيات الأوروبية. وهناك انتقادات كثيرة لشكل استعراض القائمين على مخيمي روج والهول للمحتجزين على وسائل الإعلام، وتقديم الأطفال على أنّهم "متطرفون"، ما يعزز الصورة النمطية التي يستغلها اليمين المتطرف الأوروبي عن القصّر الذين لا تحترم بعض وسائل الإعلام خصوصية أنّهم أطفال وليس لهم ذنب في خيارات الأهل. ويؤكد اليسار والمختصون الدنماركيون، كما السويديون والفنلنديون، أنّ من غير الجائز تحميل الصغار ذنوب ميول أهاليهم "فهؤلاء الصغار لم يختاروا السفر أو الولادة في مناطق داعش"، كما يجمع هؤلاء.
التقييم الأمني لمخاطر تهديد الدنماركيتين هو ما جرت مناقشته بين الحكومة والأحزاب البرلمانية، نهاية الأسبوع الماضي. على خلفية عدم وجود مخاطر منهما، على العكس من تقييم النساء الدنماركيات الخمس الأخريات، اللواتي "يحملن أفكاراً متطرفة". وتحاول الحكومة الإسراع في إخراجهما قبل فصل الطفل البالغ 13 عاماً عن والدته "ما يضعه في خطر وشيك باسم إزالة التطرف"، وفقاً لصحيفة "بيرلنغكسا" الثلاثاء الماضي.
ومن شأن استعادة الوالدتين و7 من أطفالهما أن يقلص عدد الأطفال الدنماركيين المحتجزين من 19 إلى 12 طفلاً، وهو ما يعتبره أحد المفاوضين الذي أبقت الصحف هويته مجهولة "أمراً جيداً، على الرغم من أنّه يميز بين المتواجدين في المعتقل، إذ نفضل ضمان حصولنا على اتفاق استعادة بعض الأطفال إلى البلاد بدلاً من الإصرار حالياً على إعادة 100 في المائة منهم".
ومن الواضح أن رئيسة الوزراء، فريدركسن، تفضّل الموافقة على الإعادة التدريجية للنساء وأطفالهن "لفتح الطريق فعلياً لاتخاذ موقف بشأن الأخريات لاحقاً".
وتكشف الوثائق الخاصة بالخارجية الدنماركية أنّ السلطات (في حكومة يمين الوسط السابقة) كانت تعمل بنشاط لاستعادة إحدى الأمهات (التي يجري الحديث عنها الآن) وأطفالها قبيل تغيير الحكومة في 2019. وكان من اللافت أنّ مشرّعين من "الليبراليين" و"المحافظين" باستثناء السياسي المحافظ من أصول عربية، ناصر خضر، أيدوا استعادة الدنماركيين من معتقلات سورية، مقابل رفض رئيسة حكومة يسار الوسط فريدركسن، بحجة أنّ "أهاليهم أداروا ظهورهم للدنمارك" حتى بدأ موقفها يتغير منذ السبت الماضي. ويبدو أنّ نموذج فنلندا، بتعيين مبعوث مهمته فحص استعادة النساء وأطفالهن، وبتعهد المثول أمام المحاكم الوطنية، هو ما تتجه كوبنهاغن إلى تبنّيه من أجل تسريع عودة المواطنات والأطفال إلى البلاد.
من الجدير بالذكر، أنّ مذكرة حكومية مسربة أفادت، الإثنين الماضي، أنّه يجب على فريق عمل خاص مشترك بين الوزارات تقديم مقترحات لنماذج محتملة لإعادة الأطفال الدنماركيين من سورية، وإن من دون أمهاتهم في المرحلة الأولى، بحلول 1 يونيو/حزيران المقبل في أقصى حدّ.
أرقام
أصدرت وزارة الخارجية الدنماركية، في بداية مارس/آذار الماضي، بياناً جديداً حول عدد الأطفال والنساء الدنماركيين في مخيمي الهول والروج، جاء فيه:
- يقيم في مخيمي الاعتقال ما مجموعه 19 طفلاً من مواطنين دنماركيين، أو دنماركيين سابقين، أو لهم صلات بهم.
- يقيم الأطفال التسعة عشر مع أمهاتهم الست، وقد أعربت جميع الأمهات عن رغبتهن في العودة إلى الدنمارك.
- أعمار الأطفال هي بين سنة و14 سنة. وُلد التسعة الأكبر سناً في الدنمارك، بينما وُلد العشرة الأصغر سناً في منطقة الصراع في سورية. وبحسب وزارة الخارجية، فإنّ جنسيتهم الدنماركية "لم تثبّت"، أي لم يجرِ تسجيلهم رسمياً لأمهاتهم.
- يقيم 9 من الأطفال في أقسى مخيمات الاعتقال، الهول، حيث لقي ثلاثة أطفال (ليسوا منهم) على الأقل مصرعهم مؤخراً في حريق، وقُتل مراهق يبلغ 15 سنة قبل أيام. ويقيم العشرة الآخرون في مخيم الروج.
- حُرمت 3 من الأمهات الست من الجنسية الدنماركية إدارياً، لكنّهن قادرات على الاستئناف لاستعادة الجنسية. حرمانهن من الجنسية حرمهن من المساعدة الدبلوماسية/ القنصلية.