بعد مرور أكثر من أسبوع على الفيضانات في شمال شرق ليبيا على خلفية العاصفة دانيال، لا سيّما تلك التي اجتاحت مدينة درنة، وتضاؤل فرص الوصول إلى ناجين، صار هاجس انتشار أوبئة وأمراض، بسبب تحلّل الجثث واختلاط مياه الصرف الصحي بمياه الشرب، يثير القلق حتى لا تتكرّر مأساة فيضانات نهر يانغتسي في الصين عام 1931.
وما زالت فيضانات يانغتسي تُعَدّ الأسوأ في التاريخ، إذ خلّفت ما بين مليونَين وأربعة ملايين قتيل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. ووقع ذلك بعدما فاضت مياه نهر يانغتسي، ثالث أكبر أنهر العالم، وغمرت مزارع الأرزّ وأفسدتها، الأمر الذي سبّب مجاعة وأوبئة بسبب انتشار الجثث وتحلّلها على مدى أشهر تلت الفيضانات.
وقد سُجّلت في درنة 150 حالة تلوّث من جرّاء مياه الشرب، نتيجة اختلاطها بمياه الصرف الصحي في درنة، وذلك حتى 16 سبتمبر/ أيلول الجاري، بحسب مدير المركز الليبي لمكافحة الأمراض حيدر السائح.
وبحسب ما يرد من تقارير صحافية وشهادات ميدانية لناشطين إعلاميين، فإنّ رائحة الجثث تفوح من شوارع درنة، خصوصاً أنّ أكثر من 10 آلاف شخص ما زالوا في عداد المفقودين، وفقاً لبيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، في حين تنتشر جيف الحيوانات في المدينة، إلى جانب المياه الراكدة التي تتجمّع حولها الحشرات الضارة.
وتحلّل جثث البشر وجيف الحيوانات وانتشار الروائح الكريهة يثيران القلق من أن يهدّد ذلك سلامة سكان المدينة، البالغ عددهم أكثر من 200 ألف نسمة، والذين نزح منهم أكثر من 40 ألف شخص إلى مدن الشرق الليبي المجاورة، وحتى إلى مدن الغرب البعيدة، من دون احتساب آلاف القتلى والمفقودين.
إغلاق المدينة
أمام هذا الوضع الذي يهدّد بمضاعفة عدد الضحايا غير المباشرين للفيضانات والسيول، سارعت حكومة الوحدة الليبية لإعلان "حالة الطوارئ" لمدّة عام كامل في المناطق المنكوبة.
وفي هذا الإطار، أفاد رئيس جمعية الهلال الأحمر الليبي عبد السلام الحاج، اليوم الاثنين، بأنّ إخلاء مدينة درنة شمال شرقي ليبيا يبقى "خياراً وارداً ويعتمد على الوضع الصحي فيها، إذ ثمّة مخاطر صحية حقيقة حالياً مع انتشار الجثث وتلوّث مياه الشرب في المنطقة".
وقال الحاج لوكالة "الأناضول" إنّ فرق الجمعية تواجه صعوبات، من أبرزها نقص الإمكانيات اللوجستية وصعوبة الوصول إلى بعض المناطق المتضررة. أضاف أنّ الفرق التابعة للهلال الأحمر تعمل على توزيع المعونات على المتضرّرين وإنقاذ المصابين والمساعدة في انتشال الجثث.
وعن الأرقام الأولية لأعداد الضحايا والمفقودين، قال الحاج "لا تتوفّر لدينا أرقام دقيقة للضحايا أو المفقودين، أمّا عدد النازحين فيقارب 20 ألف أسرة"، شارحاً أنّ "كلّ الإحصاءات تُجمَع لدى غرفة العمليات المركزية".
وكان جهاز الإسعاف في حكومة الوحدة الوطنية الليبية قد أعلن، أمس الأحد، أنّ عمليات البحث عن الناجين وانتشال الجثث في المناطق المنكوبة التي اجتاحتها الفيضانات "سوف تستغرق أياماً عدّة" نظراً إلى أعداد المباني المدمّرة الكبيرة.
وأوصى المركز الليبي لمكافحة الأمراض بتقسيم درنة إلى ثلاث مناطق، المتضرّرة والهشّة والآمنة، وذلك بهدف التعامل مع تداعيات السيول وإغاثة المتضرّرين ومساعدة العائلات على النزوح إلى مناطق آمنة.
كما أغلقت السلطات المحلية مناطق واسعة من درنة أمام المدنيين، ولم يعد يُسمح إلا لفرق البحث والإنقاذ فقط بالدخول إلى المناطق المنكوبة، وفقاً لما نقلته صحيفة "ذا غارديان" البريطانية عن مدير عام جهاز الإسعاف والطوارئ سالم الفرجاني.
لكنّ اللجنة الدولية للصليب الأحمر لم تشجّع على هذه الخطوة، ونفت طلباً نُسب إليها بإخلاء المدينة، وشدّدت على أنّ الجثث لا تمثّل خطراً في ما يتعلّق بتفشّي الأمراض (إذ إنّها لم تنتج عن أوبئة بل عن كارثة طبيعية).
من جهته، طالب رئيس لجنة الطوارئ الصحية في بلدية البيضاء (شمال شرق)، عبد الرحيم مازق بضرورة البدء في حملة تحصين عاجلة لكلّ عناصر فرق الإنقاذ والسكان بالمنطقة المنكوبة في شمال شرقي ليبيا، وحذّر من كارثة بيئية أشدّ وطأة ممّا وقع على خلفية العاصفة دانيال.
وكانت حكومة الوحدة الوطنية قد أرسلت نحو 400 عنصر من الأطقم الطبية إلى المناطق المنكوبة في الشرق، حتى 15 سبتمبر الجاري، كما أنشأت مستشفيَين ميدانيَّين، بحسب منصّة "حكومتنا".
الإسراع في دفن الضحايا
ونظراً إلى كثرة الجثث المتراكمة في الشوارع والتي تُقدَّر بالآلاف، وعدم توقّع كارثة بهذا الحجم، ظهر نقص في الأكفان وصعوبة في غسل الجثث، خصوصاً تلك التي وصلت إلى مرحلة متقدّمة من التعفّن أو التحلل، وقد دُفن عدد كبير منها في مقابر جماعية.
وفي هذا الإطار، أصدرت دار الإفتاء الليبية أكثر من فتوى حول الغسل والتكفين على صفحتها الرسمية على موقع فيسبوك، مع وسم "جسد واحد". وجاء في إحداها أنّه "يجوز عند الضرورة أن يكفّن عدد من الأموات في ثوب واحد، ويُدفنوا في قبر واحد، ولو كانوا رجالاً ونساء".
يُذكر أنّ قوات الردع الخاصة في طرابلس أرسلت قافلة إلى درنة تحمل أكفاناً لمواجهة هذا النقص، بحسب ما أفاد الناشط الليبي ناجي الحاج.
لكنّ دفن جثث مجهولة الهوية على عجل في مقابر جماعية أثار حفيظة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وشرحت أنّ ذلك "يشكّل خطراً أكبر يتمثّل في معاناة طويلة الأمد من قبل العائلات الناجية التي تحتاج إلى التحقق من وفاة أقاربها من قبل المتخصصين في الطب الشرعي".
ودعت اللجنة إلى عدم إطالة "تأثير الكارثة على العائلات الناجية من خلال التسبّب في بقاء أقاربهم مفقودين إلى الأبد".
من جهتها، أوضحت وزيرة العدل في حكومة الوحدة الوطنية حليمة إبراهيم، في تصريح لمنصة "حكومتنا"، اعتماد فريق من مركز المعلومات والتوثيق لوضع قاعدة بيانات منظّمة من أجل التعرّف إلى المفقودين من قبل ذويهم في وقت لاحق.
وأشارت إبراهيم إلى إرسال فرق من الأطباء الشرعيين إلى المناطق المنكوبة برفقة فنيّي تشريح، لأخذ عيّنات وترقيمها وبعدها دفن الجثامين.
وفي سياق متصل، تسلّمت اللجنة الدولية للصليب الأحمر خمسة آلاف كيس للجثامين في مطار بنغازي (شرق)، في 15 سبتمبر الجاري، وسلّمتها إلى جمعية الهلال الأحمر الليبي والجهات المعنيّة من أجل ضمان حسن التعامل مع جثث الضحايا.
كما أعلنت حكومة الوحدة الوحدة إرسالها عبر وزارة الصحة 60 ثلاجة لحفظ الجثث، بسعة 380 جثّة، بالإضافة إلى 30 غرفة عزل.
وتسمح ثلاجات حفظ الجثث وغرف العزل بحفظ الجثث مجهولة الهوية وعرضها على الطب الشرعي قبل دفنها، الأمر الذي يسمح لذوي الضحايا بالتعرّف إليهم عن طريق فحوص الحمض النووي.
لماذا لا تصل المياه؟
يشير تضاعف حالات تلوّث المياه من 55 حالة إلى 150، في خلال 24 ساعة، ومعظمها تعود إلى أطفال أصيبوا بإسهال بسبب تلوّث مياه الشرب، إلى خطورة الوضع الوبائي في المناطق المنكوبة من جرّاء السيول، خصوصاً بعد إعلان المركز الليبي لمكافحة الأمراض أنّ مياه الشرب في درنة غير صالحة للاستهلاك، ويجب الاعتماد على مصادر أخرى.
وعانى المنكوبون في درنة من نقص عبوات مياه الشرب المعبّأة، خصوصاً في الأيام الأولى بعد الفيضانات، وقد نشر ناشطون استغاثات لمنكوبين يسألون عن توفير مياه الشرب المعبّأة بعد تلوّث مياه الصنابير والآبار.
وعلى الرغم من إرسال قوافل محمّلة بالمياه المعبأة من مدن الغرب الليبي، فإنّ الاستغاثات تواصلت، الأمر الذي يعني عدم وصولها إلى جميع المنكوبين، خصوصاً في المناطق المعزولة أو تلك التي جرفت السيول طرقاتها المعبّدة وجسورها، ما صعّب عملية الوصول إليها.
وبينما تُعَدّ درنة المدينة التي تحمّلت العبء الأكبر من المآسي التي خلّفتها العاصفة دانيال، فإنّ مدن البيضاء وشحات وسوسة مثلا تضرّرت أيضاً من جرّاء الكارثة الطبيعية وأحصت قتلى ومصابين ومفقودين وأضراراً مادية.
وبلغ عدد المتضرّرين من جرّاء الفيضانات في مدن الشرق الليبي 800 ألف شخص، بحسب الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر.
وفي هذا الخصوص، أصدر رئيس حكومة الوحدة الوطنية، أمس الأحد، تعليماته الفورية إلى مجلس إدارة شركة المياه والصرف الصحي بتوفير مياه الشرب في المناطق المنكوبة وموافاته بما يُتَّخَذ من إجراءات في هذا الخصوص، بحسب ما أوردت منصة "حكومتنا".
ويعكس هذا القرار وجود نقص في توفير مياه الشرب في المناطق المنكوبة، إمّا لجهة الكمية وإمّا لجهة عدم وصولها إلى كلّ المناطق، في ظلّ قطع طرقات عدّة بسبب الفيضانات.
(الأناضول)