قصف غزة... فلسطينيون ينتظرون هدم منازلهم أمام أعينهم

16 مايو 2021
عندما تتحوّل المباني ركاماً (محمد الحجار)
+ الخط -

 

لم يعد ممكناً القول إنّ ثمّة مناطق آمنة في قطاع غزة، فالقصف الإسرائيلي طاول نواحي في وسط مدينة غزة كانت تُعَدّ أكثر أماناً مقارنة بالمناطق الشرقية المحاذية للشريط الفاصل حيث تتمترس قوات الاحتلال الإسرائيلي. وقد بلغت القذائف والصواريخ الإسرائيلية مناطق الأسواق والمكاتب الرسمية والأمنية والمباني السكنية البارزة، لكنّ الأشدّ قسوة يبقى انتظار الغزيين ساعات وهم يشاهدون منازلهم تُدمّر أمام أنظارهم بعد إخلائها.

عند الساعة العاشرة مساءً من ذلك اليوم، طرق أحد جيران نبيل السقا باب شقته بكلّ قوة وهو يصرخ ويطالبه بإخلائها بسرعة لأنّ الاحتلال الاسرائيلي ينوي قصف برج الجوهرة الواقع في وسط المدينة. ومثل هذا الجار، عمد سكان الحيّ إلى إبلاغ جيرانهم بإخلاء منازلهم الملاصقة للبرج، وهم لا يدرون كم هي المهلة المتاحة أمامهم قبل أن تستهدف الطائرات البرج، فيما يبقى مصير المنازل الملاصقة له مجهولاً.

ويُعَدّ برج الجوهرة من أبرز الأبراج في مدينة غزة، وهو يتألف من ثماني طبقات تحوي شققاً سكنية ومحال تجارية كبيرة ومكاتب مختلفة، منها ما يعود إلى قنوات تلفزيونية وصحف. وعند الساعة الثانية والنصف من بعد منتصف ليل الثلاثاء الماضي، نفّذت طائرات الاحتلال الإسرائيلي تهديدها، وقد سبقت ذلك أربعة صواريخ تحذيرية.

الصورة
دمار وإخلاء منازل في غزة 2 (محمد الحجار)
(محمد الحجار)

في ذلك الحين، كان السقا وزوجته إيمان يعيشان لحظات نفسية صعبة، إلى جانب أبنائهم الثلاثة: سميرة (18 عاماً) وسمير (16 عاماً) ومنى (10 أعوام). يخبر السقا "العربي الجديد" أنّه "في اللحظة الأولى، لم أفكّر في أيّ شيء، وخرجت مع أبنائي حاملاً هاتفي فقط، فيما حملت زوجتي بعض المستندات الرسمية الخاصة بنا، ولا سيّما هوياتنا والبطاقات المصرفية". وقد رفض السقا التوجه إلى منازل قريبة من الحيّ للاحتماء فيها، "قبل معرفة مصيرنا بعد القصف. وأصررت على مشاهدة القصف لأطمئنّ. ولحسن الحظ، لم يُدمّر البرج بالكامل". يضيف السقا: "أنا رجل ذو بنية جسدية قوية وعضلات، لكنّني وقفت أمام أبنائي ورحت أبكي على منزلي، في انتظار قصفه"، لافتاً إلى أنّ "زوجتي وأبنائي بكوا كذلك. فشقتنا اشتريناها قبل ثلاثة أعوام، وقد اجتهدت في العمل، منسّق مشاريع مع عدد من المؤسسات، وزوجتي كذلك كمدرّسة لغة إنكليزية للتمكّن من الحصول عليها". يتابع أنّهم عندما توجّهوا إليها بعد انتهاء القصف "للأسف وجدنا فيها أضراراً بالغة فيما الأثاث تحطّم بمعظمه".

الصورة
دمار وإخلاء منازل في غزة 3 (محمد الحجار)
(محمد الحجار)

وعمليات التحذير من القصف تحصل عادة من خلال اتصالات يجريها الجانب الإسرائيلي بحرّاس الأبراج، مثلما حدث مع حرّاس أبراج هنادي والجوهرة والشروق التي تُعَدّ الأبرز في مدينة غزة وأقدمها. أمّا المباني الأخرى، فتعتمد على اتصالات الحرّاس أو بعض من السكان الذين يخبرون الجميع بضرورة الإخلاء قبل عمليات القصف. لكنّ هذه المرّة لم يُحدَّد موعد للقصف بخلاف ما كان يحصل في عدوان عام 2014. حينها كانت القوات الإسرائيلية تمنح السكان ربع ساعة في أقصى حدّ ليخلوا منازلهم.

في مثل تلك المواقف، لا يعرف الناس ماذا يحملون معهم عند إخلائهم منازلهم. قد يفكّرون في أغراض كثيرة تعني لهم وتحفظ ذكريات غالية على قلوبهم، لكنّ ذلك غير ممكن، إذ لا بدّ من حمل أقلّ ما يمكن والإسراع في الهرب. وهكذا يختار كثيرون مستنداتهم ووثائقهم الرسمية والمال، فيما يصرّ آخرون على ألبومات الصور. من جهتهنّ، تحرص النساء على حمل مجوهراتهنّ، أمّا الأطفال، فيتمسّكون بلعبة واحدة لكلّ منهم.

الصورة
دمار وإخلاء منازل في غزة 4 (محمد الحجار)
(محمد الحجار)

بالنسبة إلى كاميليا عبيد، فقد حملت، الأربعاء الماضي، ألبوم صور زواجها، وألعاب أطفالها التي اشترتها لهم بمناسبة عيد الفطر، وخرجت بسرعة عندما أبلغها جيرانها بنيّة استهداف برج الشروق الملاصق للمبنى الذي تسكن فيه. يُذكر أنّ الدمار لحق بذلك المبنى كما بالبرج. تخبر أنّها قضت أكثر من ساعة وهي تنتظر القصف وعيناها شاخصتان إلى شقتها، مستعيدة ذكريات أطفالها فيها. وعبيد كانت تحلم بالسكن في شارع عمر المختار الذي يُعَدّ من أبرز الأحياء في غزة والذي يقع على مقربة من المدارس والأسواق، فيما المواصلات العامة متاحة في المنطقة. لكنّها لا تخفي صدمتها اليوم، فهذه ليست المرة الأولى التي تشهد فيها دمار منزل يخصّها. في عدوان عام 2014، دُمّر منزل والدَيها في شرق مخيّم البريج وسط قطاع غزة.

الصورة
دمار وإخلاء منازل في غزة 5 (محمد الحجار)
(محمد الحجار)

تقول عبيد لـ"العربي الجديد": "عندما خرجت، رحت أنظر إلى ابني أيهم البالغ من العمر أربعة أعوام، فهو كان يحمل لعبته سبونج بوب ولم يهتم بشيء سواها. أمّا ابنتي دينا البالغة من العمر ستّة أعوام، فكانت تحمل دمية باربي". تضيف عبيد: "بكيت كثيراً بعد القصف بساعة، عندما قالا لي إنّهما يرغبان في النوم وسألاني: أين ننام؟ حينها، استيقظت من الصدمة وأدركت أنّنا صرنا بلا مأوى. وعلى الرغم من الرعب والانتظار لأكثر من ساعة، فإنّ البكاء لم يسمح لأطفالي بالنوم إلّا بعد أربع ساعات". وتشير عبيد إلى أنّ "الاحتلال الإسرائيلي يعمد إلى هدم البيوت أمام أصحابها في الضفة الغربية المحتلة كذلك، عندما يجبر أُسر الشهداء الذين نفّذوا عمليات استشهادية على تدمير منازلهم بأنفسهم أو يجبرهم على دفع تكاليف عملية التدمير التي تنفذها آلياته. أمّا في غزة، فيعمد هو إلى هدم المنازل أمام أعين أصحابها الذين يبقون في الشارع حتى ينتهي ذلك، فيما يتحسّرون عليها".

قضايا وناس
التحديثات الحية

مساء الخميس الماضي، تعرّضت منازل في شمال قطاع غزة لتدمير كبير، وقد أعلن الاحتلال قصف 140 هدفاً حينها. من تلك المنازل واحد يعود إلى أسرة أحمد فياض، في بلدة بيت حانون. هو دُمّر بالكامل، وكذلك منزل الجيران الملاصق، فيما تضرّرت خمسة منازل مجاورة أخرى في الحيّ نفسه. وانتظر الأهالي في الشارع لأكثر من ساعتَين حتى نُفِّذَت عملية القصف، وسط هدير الطائرات المرعبة التي كانت تغير على منازل في بلدتَي بيت لاهيا وجباليا. في ذلك الحين، وقف فياض في أوّل الشارع، وحاول منع الدخول إليه حتى لا يتضرر أيّ كان، فيما كانت والدته تبكي لأنّ زوجها كان قد بنى منزل العائلة قبل وفاته عام 2015. يقول فياض لـ"العربي الجديد" إنّ "الاحتلال الإسرائيلي يعذّب الفلسطينيين عذاياً نفسياً شديداً، عندما يعمد إلى إطالة الوقت الذي يسبق عمليات القصف ويجبرهم على الانتظار لساعات حتى يروا بيوتهم تُدمَّر أمام أعينهم". يضيف: "عشنا حالة من الضيق النفسي والقلق الشديد، جعلنا نرغب في تدمير منزلنا بأسرع وقت ممكن، حتى ننتهي من الترقّب ونعرف كيف ستكون الأمور بعد ذلك وإلى أين نتوجّه". ويتابع: "قضيت ساعات الانتظار وقلبي يخفق مع كلّ هدير طائرة، حتى أتى القصف وانهرت بالبكاء بعدها مع أمي". يُذكر أنّ فياض كان يعيش في منزل العائلة مع زوجته وأبنائه الثلاثة وشقيقَين له إلى جانب والدته، وهم الآن يقيمون في منزل عمّه مؤقتاً.