استمع إلى الملخص
- يشارك فراس الشيخ رضوان، شاب في العشرينات، قصته عن فقدانه لأطرافه خلال القصف الإسرائيلي، ويصف تجربته في المستشفى ورغبته في استعادة حياته رغم الصعوبات.
- يعبر فراس عن التحديات بعد الحرب، حيث يعيش في خيمة بعيدًا عن عائلته، متمسكًا بالأمل والإصرار على العيش رغم الدمار.
هَذِه شهادَاتٌ لِناجِين وناجياتٍ من الحرْب فِي قِطَاع غَزَّة اِلتقيْتُهم فِي البرْزخ. حِكايَاتٌ مَسمُولةٌ بِالْأشْواك تُحَاوِل التَّحْديق فِي الفاجعة، سِلْسلةُ قِصص توْثيقيَّةٍ تَبحَث فِي ثِيمة النُّقْصان. هُنَا بشر فَقدُوا كُلّ شَيْء: عائلاتهم، بُيوتهم، أطْرافهم، أحْشاءهم، قطعًا مِن اللَّحْم اِعْتادتْ أن تَكسُو عِظامَهم، حَوَاسّ زوَّدتْهم بِهَا البيولوجْيَا لِالْتقاط معْلوماتٍ عن العالم الخارجيِّ، وَرقَة تِينٍ توارِي سَوأَة خَطِيئَة لَم يقْترفوهَا، وَلغَة مُتماسكة لَم يُصبْهَا مَا أَصَاب أصْحابهَا مِن تشظٍ وَشَتاتٍ واسْتحالةٍ إِلى أَشلَاء مُتناثرة.
قِصص النُّقْصان هَذِه؛ نُقْصان الأجْساد مِن أعْضائهَا، الخريطة مِن تضاريسهَا، التُّرْبة مِن بقْلهَا وقثَّائهَا وزيْتونهَا، البحْر مِن أسْماكه، القصائد مِن وزْنهَا وقافيتهَا، المنْظومة التَّعْليميَّة مِن أساتذتهَا وتلامذتهَا، المشافي مِن حَبَّة دَوَاء، قِصص تُحَاوِل الاكْتمال عَبْر روِي النُّقْصان، صَوْت الضحِية - التِي لَم تَعُد تَملِك غَيْر ذاكرتهَا فِعْلاً لِلْمقاومة - لِجَعل اللغَة البشريَّة الحسِّيَّة قَادِرة على تَجسِيد الألم أو النَّظر إِلَيه، إِنَّها مُحَاولَة لِرؤْية الإبادة مِن وُجهَة نظرٍ خَاصَّةٍ بِلحْظةٍ مُعَينَةٍ تَبحَث فِيمَا حدث لِفلسْطينيِّي غَزَّة بَعْد السَّابع مِن أُكتُوبَر.
هذهِ الشهادات التي تكتُبُها الروائيّةُ سمر يزبك وينشرُها "العربي الجديد" على حلقاتٍ ستصدُرُ لاحِقاً في كتابٍ يحمِلُ اسمَ "ذاكرة النّقصان".
شابٌ في عشرينيّاتِه، بهيُّ الطّلعة، بسمرة جذّابةٍ دخل على كرسيٍّ متحرّكٍ. كان عقلي في تلك اللحظةِ يُنتج آراء متناقضةً عن قدرة النّفسِ البشريّة على التوازن أمام خسارةٍ كهذه تُصيب الجسد في بداية العمر. كنتُ أنتظر ناجياً من حربٍ مبتورَ القدمين؛ لأجدَ نفسي أمام طفلٍ شيخ، هادئُ النَّبرِ والحركاتِ مثل مُعَلِّمٍ مترَعٍ حِكمةً، يَحكي قِصَّتَهُ مَغموراً بالسَّكينةِ ناضِحاً بالكَرامةِ، لكنَّكَ ورغم ذلك لا تستطيعُ ألّا تَستشِفَّ حَجمَ الألمِ المختبئ خلف تلكما السَّكينةِ والكَرامة.
سيظلُّ يُردِّدُ أنَّهُ باتَ نصفَ جسدٍ أو نصفَ إنسانٍ، مثلَما يفعل مُحاسبٌ أمام مسألةٍ كَمِّيَّة. وسأظلُّ، معَ كلِّ كلمةٍ من كلماتِهِ التي يقولُها بثَباتٍ وبساطةٍ وإيمان، أزدادُ اقتناعًا أنّي في حضرةِ إنسانٍ مُكتَمِلِ الإنسانيةِ، طفلٍ شيخٍ رأى ما لا يُرى.
أُعرِّفُكِ بنَفسي؟ اسمي فِراس الشَّيخ رضوان، عُمري واحدٌ وعشرونَ عاماً، وقبل أن أصبحَ نصفَ إنسانٍ كما تَرَينَ الآنَ؛ كنتُ أدرُسُ المحاسبةَ في جامعةِ القُدسِ المفتوحة. أعيشُ في غزَّةَ معَ عائلتي: أمٍّ، أخوين، أُختٍ، وأبٍ دائمِ السَّفرِ لعملهِ في التِّجارة. عائلةٌ صغيرةٌ كما ترينَ، لكنّها عائلةٌ سعيدة، أو هذا على الأقل ما أذكرُه. وُلدتُ في الحربِ والحصار، صحيح، لكنّي أحببتُ جامعتي ودراستي، وتعلَّمتُ من أهلي العيشَ برِضى وإيمانٍ وقناعةٍ بما قسمهُ الله لنا، لذا أؤكِّدُ لكِ أننا كنا عائلةً سعيدة.
نِمتُ يومَ الجمعةِ السّادس من أكتوبر متخيِّلاً أنَّ اليومَ التاليَ مجرَّدُ سبتٍ عاديٍّ، يومٍ دراسيٍّ جديدٍ. صحوتُ على صوتِ صواريخَ قَطَعَ النومَ بشكلٍ مُباغتٍ وبدَّدَ مشاهدَ آخر حُلمٍ كنتُ أراه. صوتٌ شديدٌ، غَزيرٌ، جعلني أَقْفِزُ من فراشي وأَنزلُ راكضاً إلى الشارع. الناسُ من حولي في حالةِ هِياج. لم يكن أحدٌ مِنَّا يَعرفُ ما يَحدث. في أولِ الأمرِ ظننَّا أننا نُقْصَف. هذا هو منطقُ الأشياءِ في القطاع، أنْ نُقْصَف، اعتَدْنا ذلك مثلما اعتَدْنا الحِصارَ والصبر. لكنَّ الأمرَ مُختلفٌ هذه المرةَ: الصواريخُ تَخرجُ من عندِنا! قال بعضُ الجيران: قريباً يبدأُ الإسرائيليونَ جولةَ قَصفٍ من جولاتِهِم المُعتادة، ضربةً، ضربتين، ثلاثاً… قال آخرون: بل هذه معركةُ تحريرِ فلسطين، أكَّد آخرون: لن تكونَ حرباً عاديةً، وافَقَهم آخرون: هذه المرَّةَ سيقتُلُوننا جميعاً. كلُّ من حولي قال شيئاً، وكلُّ واحدٍ كان له رأيٌ مختلفٌ. الأكيدُ أننا، في أولِ الأمرِ على الأقل، لم نعرفْ ما يَحدث، ولم نتخيَّلْ ما سيَحدث. لا أذكرُ بالضبطِ كيفَ مرَّت الساعاتُ والأيامُ الأولى. لم تَختصرِ الحربُ طولي إلى النصفِ وحسب، بل أحدثتْ فجواتٍ في رأسي. ما أذكرُه هو أننا قرَّرنا البقاءَ في البيت. لن نُغادِر، القصفُ الإسرائيليُّ آتٍ لا محالة، هذا جزءٌ طبيعيٌّ من حياتنا، هذا منطقُ الأشياءِ في غزَّة. ستكونُ جولةً مُعتادةً من جولاتِ القصف، ضربةً، اثنتين، ثلاث ضرباتٍ، لكنَّنا سنتابعُ عيشَ حياتِنا في أدقِّ تفاصيلها.
القصف الإسرائيلي آتٍ لا محالة، هذا جزء طبيعي من حياتنا، هذا منطق الأشياء في غزّة
بعد ثلاثةِ أيامٍ، في العاشر من أكتوبر، أتى الذي انتظرناه. كُنَّا في البيت، أمي في غرفة، أنا في غُرفتي، إخوتي في غرفة، وأبي في سَفَرِهِ، حين بدأ الهجومُ الإسرائيليُّ. فيمَ سيَختلفُ الأمر؟ فنحن في حِصارٍ منذ سنين، يَنقُصنا كلُّ شيء. نحن في حربٍ مُزمنةٍ تأكلُنا على البطيء! أتى القصفُ إذن، وبدا لي أنَّ المُتغيِّرَ الوحيدَ هو أنَّهُ كثيفٌ هذه المرَّةَ إلى أبعد حدٍّ، ولا يَنقطِع، ولا يَتركُ للواحدِ مِنَّا فُرصةَ التَّفكيرِ بالنُّزوح. الآن زال كلُّ خلافٍ في الآراء، الآن اتفق الجميعُ أنَّ هذه المرَّةَ لا تُشبِهُ أيَّاً من المرَّاتِ السَّابقة. ثم كان أنْ تعرَّضتْ بنايةُ جيرانِنا لصاروخٍ من العِيارِ الثقيل. تقعُ بنايتُهم وراءَ بنايتِنا مُباشرةً، وكان من الطبيعيِّ أنْ ينالَ بيتُنا قسطاً وافراً من الشَّظايا والرَّدم اللذين تطايَرا من الانفجار. حينها كانت إصابتي الأولى، وكانت في الظَّهر. هذه معلومةٌ قد تكونُ مفيدةً: حين تُصابين، في أولِ الإصابةِ حين تكونُ جديدةً، لا تشعرينَ بوجع. سيأتي في وقتهِ، ليش العَجلة؟ لذا، فورَ إصابتي، لم أشعرْ بالألم، بل لم أشعرْ بشيءٍ وأنا أتأمَّلُ صورةَ ظهري المَشْقوق وأتفرَّج على لَحمهِ وعظامهِ. كنتُ مثلَ من يُشاهِدُ إنساناً آخر، مثلَ الجرّاحِ وهو يُجري إحدى عملياتهِ. شعورٌ غريبٌ، لا أفهمُه إلى الآن، لذا لا أعتقِدُ أني مُؤهَّلٌ لوصفِه. حَدَّقتُ في وجوهِ جيرانِي وهم يَحمِلُونني إلى المشفى. أخذتْ ساعتها أُراجِعُ قرارَنا بالبقاء؛ سُكَّانُ بنايتِنا من الأطبَّاءِ والمُهندسين، أبي يعملُ في التجارةِ كما أخبرتُك، كلُّنا مدنيُّون، وليس فينا مُقاتلونَ من حماسٍ أو من فصائلِ المقاومةِ الأخرى. صَدَّقتُ أنَّ الحالةَ لن تَختلِفَ هذه المرَّة، أقصدُ أنّهم سيقصفونَ أبنيةَ المقاومينَ ومواقَعهم ولن يَتعرَّضوا لمدنيينَ مثلَنا. صدَّقتُ ذلك لأنّي اعتدتُ العيشَ على طريقتِهم في القتلِ البطيءِ لنا. ثمّ إلى أينَ كُنَّا سنذهب؟ ثم ألمْ تَرَ أنَّ الذينَ خَرجوا من ديارِهم حذرَ الموتِ قُتِّلوا وهم في طُرقاتِ هروبِهم أو في أماكنِ نزوحهم؟ أُحدِّثك عن أفكاري ساعتها، عن دوافعِ قرارِنا بالبقاء، لستُ نادماً على شيء، الحمد لله على كلِّ حال.
ألقتِ الطائرةُ حمولتَها واختفَتْ، وأسعفني الجيرانُ إلى مشفى الشفاء. كان يعُجُّ بالمصابين. وعلى الرغمِ من اسمه إلّا أنَّهُ كان يفتقدُ كثيراً من اللوازمِ والأدواتِ الطبية. لا بدَّ أنَّ أعدادَ الجرحى استنزفَتْ كثيراً من موارده. هناكَ بدأتُ أشعرُ بالألم، وكان جرحي عميقاً طويلاً. رضيتُ بأن يُغْلِقوه بخيوطٍ جراحيّةٍ قديمة. لم يكن لديَّ خيارٌ آخر، وكنتُ أريدُ أن أنتهيَ من القصةِ بأسرعِ وقتٍ وأعودَ للاطمئنانِ على أهلي. قال الأطباءُ إنَّني يجبُ أن أبقى، لكنَّ فكري مشغولٌ على أهلي ولن أنامَ على الأرضِ وسطَ أكداسِ المصابين. خرجتُ، لا أعرفُ كيفَ فعلتُها، لا أذكرُ، أذكرُ أني كنتُ أمشي مُترنِّحاً ولا أكادُ أبصرُ أمامي. مررتُ على صيدليةٍ لشراءِ اليودِ المعقِّمِ والشاش، وحينَ وصلتُ إلى البيت أخيراً وجدتُ أنَّ أهلي جميعاً بخيرٍ والحمدُ لله، وأنَّ الإسرائيليين أصدروا بياناً بعدَ القصفِ طالبينَ منَّا الذهابَ إلى الجنوب، إلى رفح.
الحزام النّاري
خرجنا، أنا وأمي وإخوتي، نازحينَ إلى دار أصدقاءٍ للعائلة في شارع الجّلاء وسط مدينةِ غزة. وهُناك، في الخامس والعشرين من أكتوبر، تعرضنا لقصفٍ جديدٍ وأُصِبت للمرّة الثانية. أرجو، حين أقولُ "قصفٍ جديدٍ"، ألّا تفهمي أنّ الصفة هُنا تفيدُ مجرّد التّكرار العدديِّ. لا! لقد كان شيئاً مختلفاً، يُسمّونه "الحزام النّاريّ". سمعتِ بالحزام النّاريّ من قبل؟ ليس صاروخاً أو اثنين، عشراتُ الصواريخ والقنابل. ههُنا قصفٌ عنيفٌ متواصلٌ قد يدوم ساعةً كاملةً، سوى أنّ هذه السّاعة لا تنتهي. قصفٌ شرسٌ، لا يرضى بأقلَّ من َمسح أحياءٍ بكاملها ومحوِ عائلاتٍ كاملةٍ من السّجل المدنيّ. كنت في الشّارع حين بدأ الحزام. لا يُمكن تصديق ذلك، لا يُمكن وصف ذلك. كنت في الشارع حين دوّى الصّوت وزُلزلت الأرضُ وانهارت الأبنية. صعدتُ فوراً للاطمئنان على الأهل والنّزول بهم. شيءٌ لا يُوصف. قصفٌ خرافيٌّ لا يتوقف، والأبنية تنهار مثل قلاعٍ من البسكوت. كلّ شيءٍ يهتزّ: الأبنية، الأرض، القلوب، الهواء، النّاس. نركض، أركض، النّاس من حولي يركضون، وفي ركضنا نرى الرّكام والقتلى والأشلاء البشرية المتناثرة في كلّ مكانٍ. لم نعد نرى أجساداً، أو كتلاً مكوّمةً، بل أعضاء وأحشاء وأطرافاً. رأيتُ بعض الأحياء أيضاً، نعم، رأيتُ من أُصيبوا ولا يزال بهم رمقٌ من حياة. لا أزال أذكر وجوههم، أطفالٌ، نساءٌ، رُموا هنا وهناك. رأيت رؤوساً وأيادي وأرجلاً، رأيت أنصاف أجسادٍ وأرباعها، رأيت أجساداً مفتوحةً مثلَ أطلس التشريح، وكنّا نقفز فوقها، ندوسُ عليها أحياناً، نتعثر بها أحياناً، ندوس على بعضنا بعضاً، نركض ونتدافع لا نفكر بشيءٍ غير الهروب من الجحيم التي اسمها الحزام النّاريّ. شيءٌ بشعٌ. قُتل مئتان من النّاس دفعةً واحدةً، ارتفع بعدها الرقم إلى ثلاثمئة. مئتان على الأقل إذن ذهبوا هكذا [أشار بكفه كما لو كانت تلفظ فقاعةً من هواء]. سمَّوا ذلك اليوم خبطة الجلاء، ضربةَ أو مجزرة الجلاء. نجت عائلتي مبدئيّاً من أولى موجات الحزام النّاريّ، ونوينا التوجّه إلى جنوبِ القطاع.
قضيت ساعات في كيس بلاستيكي في ثلاجة بصحبة الجثث. كيف حدث هذا؟ قال لي طبيب: لم نعثر على نبضك
ركبتْ أمّي مع أخي وأختي في سيّارةٍ، وركبتُ مع أخي الثّاني في سيّارةٍ خلفهم. وفي الطّريق إلى رفح تعرّض موكبنا للقصف. وبعينيّ رأيت سيّارة أمّي تُقصف. الفتاة الّتي كانت بجانبها ماتتْ على الفور، أمّا أمّي فأُصيبت إصابةً خطرةً في رجلها. هذا كلّه من الشّظايا. لو أنّ الصّاروخ نزل على السيّارة مباشرةً لكانت تبخرت في الحال. الحمد لله. نزل الصّاروخ قريباً من السيّارة وأصابتها شظاياه. الصّواريخُ تنشر روائح غريبةً إلى أبعد حدّ، كريهةً وقاتلةً، تُعيق التّنفس الطبيعيّ، لا بدّ أنّها سُمومٌ زُوِّدت بها. يُريدون قتلنا بكلّ الوسائل المُمكنة. لكنّ الرعب الحقيقيّ كان في الصّوت، صوت الانفجارات التي يحدثها الحزام الناريّ، كأنّ الأرض تنشقّ نصفين وتصرخ من ألمها. لا يزال طنين الانفجارات في أذني، الحمد لله. ما حدث مع سيارة أمّي حدث معنا بعد ذلك بزمنٍ وجيز، صاروخٌ نزل قريباً للغاية من سيارتنا. طرت بعيداً، طارت السّيّارة، طار فيها أخي والسّائق وأولاده. لم أكد أستوعب ما يحدث حتّى نزل صاروخٌ آخر. اختفى كلّ شيءٍ. أنظر حولي ولا أرى شيئاً. أشعر بدوارٍ وثقلٍ في الرأس ولا أرى شيئاً. بعد قليلٍ لمحت يداً أعرفها. كانت لواحدٍ من أولاد السائق. لم أرَ جسده، رأيت يده أوّلاً، ثمّ رأيت أشلاءً له قريباً من يده، وعلى بعد بضعة أمتارٍ رأيت رأسه يقعد على بطنه، ويده الأخرى مُركّبةٌ عليهما، وبجانب ذلك أشلاءٌ وأحشاءٌ له، أو ربّما لأحدٍ غيره، من يدري؟ كان مثل لوحةٍ مشوّهةٍ أو لعبةٍ رَكّب ولدٌ أجزاءها بطريقةٍ عشوائيّةٍ.
فقدت ساقي
نظرت إليه وضحكت، إي والله ضحكت! لم أستطع إلّا أن أنظر إليه وأضحك. لم أكن أبتسم، ضحكتُ وكنت أسمع ضحكتي، وأنظر حولي وأضحك. لم أرَ مخلوقاتٍ حيّةً حولي، رأيت ركاماً وغباراً وأشلاءً بشريّةً. لم أشعر بأيّ ألمٍ، أخبرتك أنّك لا تشعرين بألم الإصابة الطّازجة. والقصف لم يتوقف، لا يأتي الحزام الناريّ ليذهب عند أوّل فرصة. ظلّت الصواريخ تنزل، ومع كلّ نزلةٍ كنت أعلو وأطير، وفي طيراناتي المتعددة رأيتُ جثّة السّائق، ورأيت جثث أولاده الثّلاثة، كانت تتمزّق مع كلّ ضربةٍ، تتنتّف. يصعبُ وصف ما تبقى منها بأنّه أشلاءٌ، لم تُبقِ الصواريخ غير نُتَف. نتّفونا تنتيفاً. أطير مع الضّربات، وأسقط لأطير مجدّداً، وأنظرُ إليّ كيف فقدت رجليّ وأبتسم. لمَ كنت أبتسم؟ ماذا كان عليّ أن أفعل إذن! جلست بهدوءٍ، لا أشعر بأيّ شيءٍ. لعلّها راحة الموت. رجل ذو ملابس بيضاء وملامح طيبة أخذ يدنو مني ويتلو بصوتٍ نديٍّ: ولا تحسبنَّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياءٌ عند ربهم يُرزقون. ثمّ اقترب مني وخيّرني بهمسٍ بين الشّهادة والحياة. قلت له من فوري: أنا نِفسي في الشّهادة من زمان. هناك، في الآخرة، تعيشين في هدوءٍ، سكينةٍ، مع النبيّين والصِدّيقين والشهداء والصالحين، ولا يزال الرّجلُ ذو الملابس البيضاء والملامح الطيّبة يخيّرني بين الشّهادة والحياة، فأجيبه: أنا نِفسي في الشّهادة من زمان، ثمّ يعود ليخيّرني من جديدٍ كأنّه لا يسمعني. بعدها، وكنت أقتعد الأرض بمؤخرتي وما تبقى من طرفيَّ السفليين، أزاح مِن حولي بعض الرّكام، وأمسكني برفقٍ، وجعلني أستلقي على ظهري، ومسح على رأسي وهو يتمتم بكلماتٍ لم أفهمها. أكّدتُ له أنّي أُريد الشهادة، ثمّ أطبقتُ جفنيَّ على هذه الحال، وكان وجهه آخر ما رأيت.
العائد من الحياة
وصلْت إلى المشفى ميّتاً. لا أدري من الذي تكبّد عناء نقل جثّتي إليه. لم أكن وحسب بلا رِجليْن، كان جسدي مُفتَّحاً بجروحٍ كثيرةٍ، النّصف الذي تبقى منه أعني، وبه شظايا لا تُحصى، وخسر كميّةً لا بأس بها من لحمه وتماسُكه. كان أقربَ ما يكون إلى الأشلاء التي رأيتها قبل موتي. عبثاً بحث الأطبّاء عن نبضي وخفقات قلبي. ميّتٌ، وضعوني في الثّلاجة. يسهل وضع نصف جسدٍ في كيس نايلون وإلقاؤه في ثلّاجة الموتى. صلّى عليّ أصحابي وعمّي صلاة الجنازة، وبكوا كثيراً وهم يتحلّقون حول جثّتي. ولمّا أمسك عمّي بيدي يُودّعني صرخ وهو يَبكي: عايش، عايش! طلب الأطبّاء من عمي أن يهدأ ويستغفر ربّه. أستغفرُ الله العظيم، لكنّه حيّ، والله إنّه عايش! صدّقهُ أخيراً أحدهم وعثر عندي على علامات حياةٍ. حيّ، لكنّه يُحتضر، ويحتاج ستّ وحداتِ دمٍّ، ربّما نستطيع إنقاذه. أسرع عمّي لإحضار وحدات الدمّ، بينما كان الأطبّاء ينقلونني من المشرحة إلى غرفة العمليّات. قضيت ساعاتٍ ربّما في كيسٍ بلاستيكيٍّ في ثلّاجةٍ بصحبة الجثث. كيف حدث هذا؟ لم نعثر على نبضك، قال لي طبيب، وكانت عيناك مفتوحتين كعيون الموتى. وفي غرفة العمليّات قضيت سبع ساعاتٍ إلى تسع. من المؤسف أنّني لا أذكر شيئاً من ذلك، أخبروني بالتفاصيل لاحقاً، أي بعد أن صحوت من عمليتي. كان ذلك أيضاً في مشفى الشفاء، في السادس والعشرين من أكتوبر، اليوم التّالي لقصف سيّاراتنا. وشيئاً فشيئاً بدأت أستعيد ما حدث في اليوم السّابق. تذكّرت الرَّجل الأبيض، تذكّرت أني استُشهدت مُغمضاً عينيّ على ملامحه الطيّبة.
ارتجفتُ من موجة بردٍ تسلّلتْ إلى عظامي. ثمّ تذكّرت أنّي فقدت ساقي، بعينيّ رأيت اختفاءها. غريبٌ! لا أزال أشعر بوجودها. لم أكن أستطيع تحريك رأسي أو رفعه لرؤية الأمر بنفسي، لكنّ الأطبّاء وعمّي أكّدوا لي أنّها لا تزال موجودةً. ما الذي كان ما رأيته إذن؟ الأشلاء، اختفاء رِجلي، مَلَك الموت، كلّ ذلك كان هلوسةً؟ لم أستشهد! لا يمكن أن يكون كلّ ما سبق مجرّد كابوس. أشعر برجلي موجودة، صح، لكني متأكّد بأنّها طارت. عمّي يقول إنّها موجودة، الأطبّاء يقولون إنّها موجودة، وأنا أشعر بها. قد تكون موجودة إذن، قد يكون ما سبق كابوساً حقّاً. ابن عمّي أكّد لي أنّي مشيت عليها، لا بدّ أنّها موجودة إذن. ونصف الجسد الذي بقي لي خضع لعمليّاتٍ كثيرةٍ، بات محفوراً بالشقوق وموشوماً بالقطب، والأطبّاء يأتون إلي دائماً ويفحصون قدمي. لا بدّ أنها موجودة إذن. لكنّ شعوراً غريباً يراودني، أشعر أنّ الجميع يكذب عليّ. قلت لعمّي: عمّي، احكِ لي الحقيقة، ما وضع رجلي؟
- راحت يا عمّي.
- أيّ واحدة تقصد؟
- التِنتين عمّي، التِنتين.
قلت له: الحمد لله، شعرت بارتياحٍ شديدٍ. مستغربة!؟ سبقتني رجلاي إلى الجّنة، ركضتا مسرعتين مثلما كنت أركض وأنا ولدٌ وراء الطّابة. تأكدّت حينها من قصّة الملاك، كلّ ما حلّ بي كان حقيقيّاً. متُّ، ثمّ عدت إلى الحياة، واستبقى الموت جزءاً منّي لديه ريثما ألتحق به. تذكّرت كلّ الذي رويته لك من قبل، كل شيء. بل ليس كل شيء، بعضاً مما رويته لك. شعرت بالرّضى لأنّ الله اختار لي ما اختاره. شعرت برضى حقيقيّ. وكان أن انتشر شريط فيديو يعرض حالتي، وتلقيت في إثره تعاطفاً كبيراً من ناسٍ مكتملي الأعضاء، من ناسٍ فقدوا ذراعاً أو ساقاً، من ناسٍ فقدوا أكثر أو أقلّ، وكنت ممتناً لهم، وزادتني كلماتهم صبراً وقوّةً ورِضى.
الصّواريخُ تنشر روائح غريبةً إلى أبعد حدّ، كريهةً وقاتلةً، تُعيق التّنفس الطبيعيّ، لا بدّ أنّها سُمومٌ زُوِّدت بها.
لكنّ ذلك لم يكن نهاية قصّتي في مشفى الشفاء. حالتي لا تزال خطِرةً، وكان عليَّ المكوث فيه خمسة أشهرٍ. لا يزال ما تبقى من طرفيَّ السفليّين يأتكلان، وكان على الأطبّاء إجراء عمليّة في كلّ مرةٍ، أي التّنظيف بإزالة مزيدٍ من اللحم والعظم. نعم! كانوا يبترون في كلّ مرّةٍ حتّى لم يبقَ لديَّ ما يبترونه، وصلوا إلى أعلى الفخذين. كان الوضع صعباً. كلّ عائلتي في المشفى. أبي لا يزال في سفره، أمّي مصابةٌ بجراحٍ خطرة، أخي الصّغير ذو السّنوات الثلاث جسمه مزروعٌ بالشّظايا، ومثله أختي وأخي الآخر. والأطبّاء لا يكفّون عن البتر، لا يريدون أن يتركوني أموت بسلام. قلت لهم: أُفضّل الموت على رُؤيتكم كلّ مرة تقتطعون جزءاً إضافيّاً من جسدي. أعددت نفسي للموت، الجميع ظنّ أنّي ميّتٌ قريباً لا محالة، فحالتي خطرةٌ. حصلت أشياء كثيرةٌ، وتوقّف الائتكال، وتوقّف البتر إذن عند أعلى فخذيَّ، وعشت. لا أستوعب ما حصل. أتذكر لحظات ما قبل الحزام النّاريّ، كنّا في الشارع، كنت في الشارع أرى النّاس يمشون بشكلٍ عاديّ، اشتريت بعض الأغراض، رأيت جارنا يشتري الخبز الذي لم يأكله أحد. لم نكن غير مجموعةٍ من المدنيّين، مُجرّد عائلاتٍ عاديّة تعيش حياةً عاديّة إلى أن حدث ما حدث.
كانت الجثث والأشلاء في كلّ شبرٍ. في طرفة عينٍ مُسح كلّ شيء، اختفت بيوتٌ ومحال ومخازن وحيواتٌ كاملة
شيءٌ فظيع، لن تتخيلي بشاعة المشهد مهما وصفت لك، كانت الجثث والأشلاء في كلّ شبرٍ. في طرفة عينٍ مُسح كلّ شيء، اختفت بيوتٌ ومحال ومخازن وحيواتٌ كاملة، دمّروا كلّ شيء في غزّة، دمّروا غزّة كلّها. أُريد أن أفهم: ما ذنبي؟ ما ذنب الأولاد الذين كانوا معي في السّيارة؟ ما ذنب حيّ التاج؟
نسيت أُخبرك، المنطقة التي كنّا فيها في شارع الجّلاء اسمها حيُّ التّاج، لم تعد موجودةً، كلّ سكّانها أطباءٌ ومهندسون وأكاديميون وتجار، أُريد أن أفهم لأنّي لا أشعر بشيء، وأتخيّل أنّ الفهم يمكن أن يحقق معرفةً تُغني عن فقدان الشعور. تُصدّقين؟ كنت أسمعهم وأنا في المشفى يهمسون بأنّي سأموت، كانوا يبترون ويُخرجون الشظايا ويهمسون بأنّني ميّت. أتظاهر بأنّي لا أسمعهم، لكنّني كنت أتمنّى أن يكون ما يقولونه حقيقيّاً. لم أكن أُريد أن أعيش، أن أتعافى، أردت أن أموت وحسب، فالآلام كانت رهيبةً، لا تستجيب للمسكّنات، وما تبقى من جسدي كان أبعد ما يكون عن أن يُشبه جسد إنسانٍ سويٍّ. أيُّ عيشةٍ هذه؟ ما الوجع؟ ما الجسد؟ ما الإنسان؟ لكن اسمعي، بالرغم من كلّ شيء، أو ربّما بسببه، أريد أن أعيش، أن أبدأ حياتي من جديد، ما تبقى منها. عدت من الموت وسأعيش ما تبقى لي ريثما ألحق برجليَّ. سأعمل بالتّجارة، سأشتري بيتاً وسيّارةً، سأعيش مثل البشر. طوال الوقت أفكر بعائلتي، بأخي الصّغير تحديداً. يعيش الآن وحده في رفح. يعيش في خيمةٍ، ولدٌ صغيرٌ يعيش في خيمة بعيداً عن أهله، وقد علمت أخيراً أنّه أُصيب بالتهاب الكبد. التفكير فيه يقتلني. دمّرت إسرائيل حياتنا، هدمت بيوتنا، حوّلت أجسادنا إلى أشلاء، مزّقت عائلاتنا، لا أستطيع التفكير بكلّ هذا مرّةً واحدةً، لو فعلت سأنفجر حينها بالتأكيد. ثمّ يحدث أن أرى الناس يمشون بينما أتدحرج على كرسيٍّ متحركٍ، فلا أملك إلّا أن أسأل نفسي: لمَ ذهبت الرجلان كلتاهما؟ لمَ لم تبق واحدةٌ على الأقل أتعكّز عليها.