غزة المعزولة... أهالي القطاع الجريح مُبعدون عن الدنيا

28 أكتوبر 2023
الاتصالات الهاتفية انقطعت نهائياً عن غزة (محمود الهمص/ فرانس برس)
+ الخط -

شلّ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة تواصل السكان وتنقلهم منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، وصولاً إلى جعلهم يعجزون عن تحقيق الاتصال التام ببعضهم البعض وبالعالم بدءاً من مساء يوم الجمعة، بعدما قطع الاتصالات عنهم بشكل نهائي.
بحث الغزيون بصعوبة كبيرة عن أصدقائهم وأقاربهم الذين ضاعت أخبارهم في الأيام الماضية، وقبل أن يقطع الاحتلال الإسرائيلي الاتصالات عنهم بشكل نهائي. كانوا يحتاجون أحياناً إلى ساعات لإجراء اتصال واحد بعدما قصف الاحتلال الإسرائيلي شبكات الاتصال وأبراج تقوية الإرسال التي تعتمد عليها شبكات الهواتف الخليوية المحلية، وتدمّر عدد منها، خصوصاً تلك التي كانت منصوبة في الأبراج العالية بغزة ومناطق مختلفة، في حين لا تعمل أخرى بسبب عدم وجود بطاريات وكهرباء وحتى وقود لتشغيلها، وهذه حال معظم الخدمات غير المتوفرة منذ بدء الحرب.

حياة بدائية

كان عبد السلام النجار (36 عاماً) يتعمد الاتصال في ساعات الصباح الباكر، خلال الأيام الماضية، من خلال اتخاذ موقع قرب نافذة داخل منزل نزح إليه في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، وقد استطاع الاطمئنان على شقيقتيه اللتين تقيمان شمالي القطاع، وعلِم منهما أنهما نجتا في اللحظات الأخيرة، ووصلتا إلى مدينة دير البلح، لكن اثنين من أبناء شقيقتيه استشهدا بعد ثلاثة أيام حين ذهبا لإحضار الخبز والمياه. أما اليوم، فبات من المستحيل عليه التواصل معهما نهائياً، حاله كحال جميع الغزيين.
لم يحضر النجار جنازة أبناء شقيقتيه، مثل حال كثيرين ممن فقدوا أفراداً من عائلاتهم في أثناء النزوح، فهو يفتقر، مثل كثيرين أيضا، إلى وسيلة نقل، كما يحسب ألف حساب أيضاً لمخاطر احتمال استهداف القصف الإسرائيلي أي مكان. وهو يسمع الأخبار فقط من جهاز راديو يُشغّل باستخدام بطاريات الشحن القليل. وفي ساعات الليل لا يتوفر أي شحن لاستخدام الهواتف أو أي نوع من الإنارة، فقط ضوء القمر أو المتفجرات، فينعزل الغزيون عن الدنيا كلها، كما يقولون.
يخبر النجار "العربي الجديد": "استطعت الاطمئنان على عدد من أفراد عائلتي، في حين لا أعرف شيئاً عن آخرين. وقد نجحت في التواصل مع بعضهم في وقت سابق بعدما أجريت أكثر من اتصال هاتفي، وأحياناً لم أستطع أن أسمع شيئاً خلال الاتصال لأن الصوت متقطع جداً على الشبكات المحلية، وأكرر مرات عدة خلال الاتصال الواحد: طمونني فقط وقولوا إنكم بخير. كنا ننتظر الحصول على الكهرباء من المصادر المتوفرة أو من البطاريات لتشغيل الإنترنت، وننتظر يوماً كاملاً لسماع الأخبار. لقد حوّل الاحتلال حياتنا إلى حياة بدائية وسط التطور".

الصورة
شحن جماعي للهواتف الخليوية في خان يونس (محمد عابد/ فرانس برس)
شحن جماعي للهواتف الخليوية في خان يونس (محمد عابد/ فرانس برس)

تلفاز على البطارية

وفيما فقد بعض الناجين من القصف هواتفهم الخلوية تحت الركام، استخدم بعضهم طرقاً بدائية لتوجيه رسائل لذويهم وأصدقائهم تفيد بأنهم لا يزالون على قيد الحياة من خلال التواصل مع أقارب، علماً أن طواقم وزارة الصحة والدفاع المدني أعلنت بعد 20 يوماً على العدوان فقدان 1950 شخصاً يرجح أنهم قضوا تحت الأنقاض.
قرب مجمع ناصر الطبي كان محل بقالة صغير يشغّل تلفازاً صغيراً على البطارية كي يستمر في الاطلاع على الأخبار، ويجذب في الوقت نفسه الناس للشراء من المحل خلال مشاهدتهم الأخبار، وهو ما فعله صفوت خطاب الذي صدمته مشاهد تشييع طفل شقيقه في مستشفى شهداء الأقصى، حين عرضت كاميرات قناة "الجزيرة" لقطات مباشرة للواقعة، فانهار من البكاء الشديد.
كان خطاب لا يعرف شيئاً عن شقيقه الذي نزح من غزة إلى مخيم النصيرات، وحاول طوال اليوم السابق لاستشهاد ابن شقيقه التواصل مع شقيقه للاطمئنان عليه وعلى عائلته، وعلِم أنه ابن شقيقه حازم البالغ تسعة أعوام وشقيقه الأكبر مهدي (14 عاماً) استشهدا بقصف استهدف مخيم النصيرات في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري.

الصورة
يبحث الغزيون بصعوبة كبيرة عن أصدقائهم وأقاربهم (عبد زاغوت/ الأناضول)
يحاول الغزيون بصعوبة معرفة أخبار عن أصدقائهم وأقاربهم (عبد زاغوت/ الأناضول)

سيراً على الأقدام

ينتظر الغزيون ساعات طويلة للوصول إلى مواصلات يحتاجون إليها لتنفيذ تنقلات ضرورية، في حين بات بعضهم يرسلون أفراداً من أسرهم لجلب الطعام والمياه سيراً على الأقدام، وهو ما يحصل يومياً مع الشقيقين مؤمن وإبراهيم البردويل اللذين ينتظران ساعات طويلة وسط طوابير لجلب المياه والخبز.
يقول إبراهيم (24 عاماً)، وهو أكبر أشقائه، لـ"العربي الجديد": "لا توجد مواصلات يومياً، فأمشي مع شقيقي مؤمن (18 عاماً) مسافات طويلة، ونشعر بإرهاق لنحضر الطعام، ونصاب كل يوم بجروح؛ لأن الطرقات التي نسير فيها مليئة بركام القصف".
وكان التواصل انقطع بين أفراد أسرة البردويل ووالدهم المختفي منذ أيام، في حين نزح 20 من أفرادها الذين كانوا يسكنون داخل منزل في حي الشيخ رضوان، إلى مبنى في مدينة خان يونس يضم أكثر من 100 فرد. يقول إبراهيم: "أبلغنا جهاز الدفاع المدني بفقدان والدي، وحاولنا الاتصال بشقيقتي المتزوجة التي تعيش في حي تل الهوا لمعرفة إذا كانت تملك أي معلومات عن والدي، لكنها أبلغتنا أنها لا تعرف شيئاً، وأنها انتقلت إلى مدينة دير البلح".

خط واحد للاتصالات

يعتبر الاتصال من الضفة الغربية أو من دولة خارج فلسطين إلى قطاع غزة أسهل من إجراء غزي اتصال من خلال شبكة اتصال محلية داخل القطاع. وهذا ما حصل مع كثيرين عجزوا في الأيام الماضية عن التواصل مع أقاربهم في قطاع غزة، لكنهم طلبوا من أقاربهم في الضفة الغربية والأردن ومصر الاطمئنان على أعضاء من أسرهم، ربما كانوا يعيشون على بعد كيلومترات قليلة بعيداً عنهم.
كان الغزيون يحدّدون نقطة داخل المنزل لالتقاط شبكة الاتصال في شكل أفضل تمهيداً للتحدث مع أقاربهم وأفراد من عائلتهم. وقد يستغرق إنجاح عملية الاتصال نصف ساعة، ويترافق مع صوت غير واضح، ما يحتم تكرار الكلمات والرسائل الصوتية من أجل توضيح تفاصيل الكلام. لكن كل هذا، على محدوديته وصعوبته، انتهى الآن مع تعطيل الاحتلال الإسرائيلي للاتصالات بشكل تام في القطاع.
يخبر الشاب كريم جودة الذي يسكن في مخيم جباليا شمالي غزة، في حديثه "العربي الجديد"، أنه أجرى مكالمة بصعوبة كبيرة مع صديقه جميل البلعاوي، وذلك بعد عشرات المحاولات، ثم تفاجأ بأن محيط منزل صديقه استهدفه القصف، ومطالبته إياه بعدم الاتصال به لأن نجله جمال (7 أعوام) تحت الأنقاض، ويبحث عنه.
ورغم الصعوبات، كثّف جودة والعديد من الأصدقاء اتصالاتهم بالبلعاوي لمعرفة مصير الطفل جمال الذي أخرج بعد ساعات شهيداً من تحت الأنقاض، فعم الحزن بين أصدقاء الوالد.
يقول جودة لـ"العربي الجديد": "إرسال شبكة الهاتف الخلوي كان متقطعاً في السابق طوال اليوم، ونضطر إلى المشي مسافات في الشارع لإجراء اتصال أو نصعد إلى أحد السطوح، رغم الخطر في المكانين، في حين نحتاج إلى 20 محاولة على الأقل لإجراء اتصال واحد، والإنترنت منقطع عن غالبية سكان قطاع غزة، والمواصلات غير مؤمنة. كنت أرغب في الوقوف مع صديقي في مصابه ومساندته في هذه اللحظات الصعبة، لكن لم تتوفر أية وسيلة مواصلات".
ودمّر القصف الجوي الإسرائيلي في الأيام الماضية معظم البنية التحتية للاتصالات في القطاع، وبينها اثنان من الخطوط الرئيسية الثلاثة للاتصالات المتنقلة. وكان خط واحد فقط يعمل سابقاً، لكن الخدمة معطّلة بحسب ما تورده بيانات شركة "نت بلوكس" لمراقبة انقطاع الإنترنت ومقرها لندن التي تحدثت عن أن الاتصال في قطاع غزة انخفض إلى نحو 58 في المائة، حتى صباح الاثنين الماضي.
أيضاً توقف كل مزودي خدمة الإنترنت المحليين التسعة في غزة عن العمل، بينما تعتبر شركة "بالتل" أكبر مزود فلسطيني، ولديها اتصالات في قطاع غزة وأنحاء المنطقة.
ودمّرت الطائرات الحربية مبنى شركة الاتصالات الفلسطينية (بالتل) في الأسبوع الأول من الحرب، ما أدى إلى انقطاع واسع في الاتصالات والإنترنت. كذلك خلّفت الغارات أضراراً كبيرة في المنازل والممتلكات، وأحدثت حالة من الذعر الشديد في صفوف الأهالي، مع انقطاع التيار الكهربائي عن مناطق واسعة، ما أثّر بدوره على تغطية الإنترنت.
 

المساهمون