وسط صيف يشتدّ حرّه، رأى الغزيون أنفسهم مرّة أخرى ضحية عدوان إسرائيلي جديد. يأتي ذلك في ظلّ أزمة كهرباء متفاقمة، أزمة غير مستجدّة يتعايش معها أهل القطاع منذ 17 عاماً، إلا أنّها اليوم تزيد معاناتهم.
في مخيّم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين الواقع غربي مدينة غزة، تجلس عائلات كثيرة أمام أبواب المنازل هرباً من الحرّ وسط انقطاع الكهرباء، وذلك بالتزامن مع العدوان الإسرائيلي الأخيرة فيما طائرات الاستطلاع الإسرائيلية تحلّق من دون توقّف في سماء قطاع غزة راصدةً كلّ حركة.
وتُعَدّ هذه واحدة من عادات سكان مخيّم الشاطئ في فصل الصيف لا بل سكان مخيّمات اللاجئين الثمانية التي تتوزّع في قطاع غزة المحاصر، من دون أن يتمكّن أيّ عدوان إسرائيلي من أن يبدّلها. يُذكر أنّ العدوان الإسرائيلي في عام 2021 وقع في مايو/ أيار وسط حرّ شديد كذلك، كذلك الأمر بالنسبة إلى عدوان عام 2014 في يوليو/ تموز وأغسطس/ آب والذي استمرّ 51 يوماً.
بالقرب من المسجد الغربي في المخيّم، يجلس أبو سامح سمّور (74 عاماً) مع زوجته وابنهما وأحفادهما، فيما يشغّل الراديو على هاتفه الصغير مستمعاً إلى الأخبار العاجلة التي تبثّها الإذاعات المحلية. وهو لا يملك إلا الجلوس في خارج المنزل إذ إنّ سقف منزله من الأسبست، بالتالي يتحوّل داخلة في النهار إلى ما يشبه "فرناً ملتهباً" كما يصفه. ويوضح سمّور لـ"العربي الجديد" أنّه مع انقطاع التيار الكهربائي، من غير الممكن البقاء في الداخل إذ لا يمكن تشغيل مروحة السقف ولا أيّ مروحة أخرى.
لا يبالي سمّور بأيّ شيء وسط الحّر، ويقول: "كلنا ميّتون في المخيّم، هذه مش (ليست) حياة". بالنسبة إليه، فإنّ ما يرتكبه اليوم الاحتلال الإسرائيلي من عدوان وحصار أشدّ بكثير ممّا كان الوضع عليه في فترة الاحتلال ما بين عامَي 1967 و1993، ولا يخفي شعوره بالحزن على أحفاده الذين افترشوا البَلاط لتبريد أجسادهم. ويشرح سمّور أنّ "الفرق ما بين تلك الفترة الزمنية وبين اليوم أنّنا كنّا تحت حكم الاحتلال لكنّ الكهرباء كانت متوفّرة في المنازل وأماكن العمل، بالتالي لم نكن نجلس في أزقّة المخيم لأنّه يحظر تجوّلنا ويفرض عقوبات في حال خالفنا الأوامر. أمّا اليوم، فالكهرباء مقطوعة عنّا وهو يحاصرنا ويراقبنا من السماء ويقتلنا ببطء إذ نختنق بسبب الحرّ".
لا يختلف الأمر في مخيّم جباليا للاجئين الفلسطينيين شمالي قطاع غزة، ولا يمكن تفويت مشاهد النساء في منطقة الفاخورة غربي المخيّم وهنّ يجلسنَ مع أطفالهنّ أمام أبواب منازلهنّ وفي الأزقّة إذ إنّ الحرّ لا يُحتمَل في داخل المنازل.
تخبر جميلة الدبجي (59 عاماً) "العربي الجديد" أنّ "منازلنا تتكوّن من صفيح يلتهب في الصيف"، مؤكدة أنّ "أسطح منازل المنطقة بمعظمهما من الصفيح. ونتيجة الحرّ الشديد، راحت تظهر على أجساد أحفادي بقع حمراء". تضيف الدبجي: "لدينا مراوح سقف، لكنّ المنزل في الصيف يحبس الحرارة الشديدة فتولّد المروحة هواءً حاراً في الداخل. لكنّ الكهرباء مقطوعة الآن، والحرّ مسيطر ليلاً نهاراً ولا يرحمنا. لذا لا مفرّ لنا سوى الجلوس أمام باب المنزل، على الرغم من أنّ ذلك غير مأمون وسط القصف الإسرائيلي". وتشدّد: "لقد تعبنا من تحمّل كلّ ذلك، والأمر نفسه بالنسبة إلى أطفالنا الذين يتحمّلون ما لا يمكن تحمّله".
لا كهرباء فعتمة
من جهة أخرى، بسبب الظلام في المساء نتيجة انقطاع التيار الكهربائي كذلك، يتعرّض الغزيون للأذى وهم يخلون منازلهم على سبيل المثال. هذا ما حصل مع سليمان صيام (46 عاماً) الذي أصيب مع طفلَيه بجروح في أثناء الخروج من شقّتهم السكنية في حيّ الرمال وسط مدينة غزة، في أوّل أيام العدوان الحالي، عندما هُدّد مبنى قريب منهم مساءً. ويتزايد الضغط النفسي على صيام وزوجته مع الحرّ الشديد والترقّب وعدم القدرة على تلبية حاجة أطفاله إلى مراوح تعمل بالبطاريات. فهو أب لستّ أبناء ويعيش في شقة صغيرة، في حين أنّ أهله يقيمون في حيّ الزيتون شرقي مدينة غزة لكنّه لا يستطيع أن يذهب إليهم خوفاً من القصف الذي يستهدف منطقتهم التي سبق أن شهدت مجازر إسرائيلية في خلال العدوانَين الإسرائيليَين في عامَي 2009 و2012.
ويقول صيام لـ"العربي الجديد" إنّه في خلال الساعات الأربع التي تُغذّى فيها بيوت الغزيين بالتيار الكهربائي، "يعمد الجميع إلى شحن بطاريات هواتفهم المحمولة وإعداد الطعام والخبز". يضيف: "صرنا جميعاً فقراء في الوقت الحالي، ووسط انقطاع الكهرباء لا أحد يستطيع القيام بأيّ شيء، ووسط موجة الحرّ الشديد أشعر باختناق كبير طوال الوقت"، لافتاً إلى أنّ أطفاله يطالبون بالخروج إلى الشارع من شدّة الحرّ "لكنّني لا أستطيع السماح لهم بذلك".
ويتخوف كثيرون من أصحاب مولدات الكهرباء الخاصة والعاملين فيها من العمل في المساء، نظراً إلى اشتداد القصف الإسرائيلي في ذلك الوقت، علماً أنّ عدداً من تلك المولدات تعطّل نتيجة أضرار خلّفها القصف. بالتالي تتفاقم أزمة الغزيين الكهربائية، فكثر هم الذين يعوّلون على تلك المولدات على الرغم عن غلاء تعرفتها.
مياه مقطوعة
على الرغم من انشغالهم بالعدوان الإسرائيلي الذي يستهدفهم منذ بضعة أيام، فإنّ الغزيين يرون أنّهم يواجهون في صيف هذا العام أسوأ موجة حرّ عرفوها، علماً أنّ كثيرين عجزوا عن شراء أجهزة تبريد جديدة وسط حدّة الأزمة الاقتصادية وتشديد الحصار الإسرائيلي ومنع البضائع من الدخول إلى القطاع في الأشهر الأخيرة.
فضل بركات (66 عاماً) واحد من الغزيين الذين يعانون من أزمة الكهرباء القائمة، ويصفها بأنّها "كارثية"، إذ إنّ زوجته كريمان (63 عاماً) مصابة بتليّف رئوي وهما لا يملكان إلا مروحة واحدة تعمل ببطارية صغيرة. لكنّه يشكو كذلك لـ"العربي الجديد" من انقطاع المياه، لا سيّما أنّ رفعها إلى الخزانات يتطلّب كهرباء لتشغيل المولدّات الخاصة بذلك، علماً أنّ التغذية بالمياه تكون في خلال ساعات محدودة في أيام محدودة كذلك أسبوعياً. ولا يخفي بركات أنّه دخل في اليوم الرابع "من دون قطرة مياه واحدة في الخزانات"، مشيراً إلى أنّ أبناءه يحاولون يومياً إحضار المياه لزوجته علّها توفّر لها تبريداً ما وسط الحرّ الشديد.
ويعبّر بركات عن أسفه قائلاً "نحن في عام 2022 وما زلنا نطالب بحقّ بسيط (الكهرباء) في حين أنّه لا يعني شعوباً كثيرة على الكوكب إذ هو متوفّر لها. كذلك تردنا أخبار مفادها أنّ مسؤولين دوليين ظالمين يقرّون بحقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها مدعين كذباً أنّها لا تستهدف سوى حركة الجهاد الإسلامي". ويتابع أنّ "هذا المجتمع الدولي ظالم. وفي حين كثرت الأخبار عن موجة الحرّ في أوروبا والعالم في الآونة الأخيرة، نعيش نحن يومياً موجة حرّ وكذلك عنفاً ودماراً، وأنا عاجز عن حماية زوجتي ليس إلا".
لا خطط إخلاء
كلّما أتت قوات الاحتلال الإسرائيلي بعدوان على غزة أو بحملات عسكرية على بعض الأهداف، فإنّ المعابر الحدودية تُغلق باستثناء معبر بيت حانون الذي يسمح بمرور بعض حالات إنسانية قليلة ومنظمات دولية. وتقول المتخصصة في علم الاجتماع نهلة رضوان لـ"العربي الجديد" إنّه "في خلال أيّ عدوان إسرائيلي تزيد نسب الإصابات في قطاع غزة. وتعيد ذلك إلى أسباب عديدة إلى جانب الاستهداف المباشر، من بينها تنقّلهم في خلال هروبهم إلى مكان آمن في المناطق المستهدفة والتي يُصار إلى إخلائها تمهيداً لقصفها". وتشرح أنّه "عندما تخرج العائلات من بيوتها في خلال عمليات الإخلاء، قد يُصدَم أفرادها بمخلّفات القصف وقد يسقط عدد منهم أرضاً وقد يُصابون بطرق أخرى مختلفة نتيجة عدم توفّر إنارة. كذلك لا تتوفّر سياسة إخلاء آمن للغزيين كما هي الحال في الجانب الإسرائيلي، إذ يوفّرالاحتلال ملاجئ آمنة" إلى جانب خطط واضحة للإخلاء.
واعتاد الغزيون على انقطاع الكهرباء أكثر مع كلّ عدوان إسرائيلي، وذلك بعد استهداف الطائرات الإسرائيلية محوّلات في مناطق متفرّقة. وفي سياق متصل، أعلنت محطة الطاقة الوحيدة في قطاع غزة عن تشغيلها لساعات محدودة بسبب نقص الوقود نتيجة إغلاق الاحتلال المعابر الحدودية أمام البضائع والمحروقات منذ نحو أسبوع. وقد صرّح المتحدث باسم شركة الكهرباء محمد ثابت بأنّ محطة توليد الكهرباء سوف تشغَّل لمدّة أربع ساعات في اليوم فقط، بسبب نقص في الوقود. لكنّ ثابت بيّن أنّ المتوفّر من الوقود يكفي لسبعة أيام فقط، في حال استمرار إغلاق المعابر كما هي الحال اليوم، معبّراً عن مخاوف من توقّف المحطة كلياً.