كان زوج صابرين حسن قد وعدها بألا يتركها حين أصيبت بمرض السرطان، إلا أنه استشهد جراء قصف الاحتلال، لتلحق به زوجته جراء المرض والنزوح والحزن.
تنظر صابرين حسن إلى باب الخيمة في دير البلح، تنتظر ذلك الحبيب الذي وعدها بأنه لن يغيب عنها كثيراً أو قدر ما يستطيع. لكن مرّ يوم ثم يومان فثلاثة، ولاحظت تغيراً في صوت أمها وأبيها وكل من حولها. شعرت بشيء ما يحصل لعلّه تدهور في صحتها من دون أن تعلم. ربّما أراد المحبون إخفاءه عنها كي لا تسوء حالتها أكثر.
مرّت الأيام ثقيلة بل أثقل من أيام النزوح والحرب. جسدها الذي نحل لم يعد يطيق برد الخيمة ولا قلة الغذاء ولا تأخر الدواء ومر النزوح. لكن وجه ذلك الندي يخفف عنها الألم ويبعث فيها جرعات الأمل. لكن كيف يغيب ذلك الشقي ولا يتصل بها حتى؟ تتذكر أن الاتصالات في غزة شبه منعدمة. مرّ أسبوع ولم يحدث شيء، ولا بد من مصارحة أحدهم. طلبت صابرين علي محمد حسن (31 عاماً) من أمها، أم عمار حسن، مصارحتها، لتفاجئها الصابرة الأخرى بالقول: "ارتقى زوجك ووالد طفلتيك إلى العلا". هذا هو المصاب الجلل الذي كانت تخاف حدوثه. منذ إصابتها بمرض السرطان أقسم أنه لن يفارقها. سبب الفراق هو الاستشهاد. ساءت حالتها أكثر لتتوقف عن الكلام كلياً وتلحق روحها بروحه وقد تحملت المرض لعامين كاملين.
يقول شقيقها عمار إن والديه سمياها صابرين لأن العائلة كانت صابرة على وجود والدها في سجون الاحتلال آنذاك، وقد ولدت في 12 أكتوبر/ تشرين الأول 1992، وقد حفظت القرآن الكريم في مرحلة الثانوية، مشيراً إلى أنها من الفتيات المتميزات بحسن الأخلاق وطيبة القلب والتعلق بالجنة، وكانت محبوبة من الجميع في كافة محطات وأماكن حياتها.
أنهت صابرين دراستها الجامعية ونالت درجة البكالوريوس من جامعة فلسطين بتخصص التمريض عام 2014، لتتزوج عام 2016 من الشاب محمود العطل ويرزقا بالطفلتين شام (ستة أعوام) وجنة (ثلاثة أعوام). عملت في مجمع الشفاء الطبي ومستشفى النصر للأطفال وأخيراً مستشفى الرنتيسي التخصصي، وقد أصيبت بمرض السرطان عام 2021.
وعن رحلة العلاج التي يصفها شقيقها عمار بأنها رحلة عذاب، يقول: "بدأت رحلة عذابات العلاج وهي تتنقل بين مجمع الشفاء ومستشفى الصداقة التركي الفلسطيني"، مشيراً إلى أن الاحتلال الإسرائيلي منعها من المغادرة عن طريق معبر بيت حانون لتلقي العلاج في مستشفيات الداخل المحتل، وانتقلت لاحقاً عن طريق مصر للعلاج في مؤسسة ومركز الحسين للسرطان في الأردن، حيث تلقت العلاج الكيميائي إلى حين انتهاء جرعاتها، فعادت مجدداً إلى أرض الوطن.
صابرين التي تعاني من مرض السرطان كانت تعمل ليل نهار على تخفيف آلام أطفال غزة المصابين بذات المرض من خلال عملها في مستشفى الرنتيسي. لكن حالتها ازدادت سوءاً بعد عودتها لعدم توفر العلاج، واضطر الأطباء إلى استئصال الثدي، ثم انتشر المرض ووصل إلى الرئتين والكبد، وعادت مجدداً للعلاج في الأردن، وعاشت حياتها من دون يأس أو ملل أو تذمر.
ثم كانت الحرب على غزة. عاشت العائلة النزوح وانتقلت صابرين مع ذويها من شمال غزة (منطقة الكرامة) إلى دير البلح بحثاً عن الأمن والسلام، وازدادت حالتها سوءاً يوماً بعد يوم، إلى أن استطاعت التوجه إلى المستشفى التركي لتلقي جرعة من العلاج الكيميائي تحت ضربات المدفعية وقصف الطيران. وتبين أن المرض وصل إلى الدماغ. حصل ذووها على الأوراق الرسمية التي تفيد بضرورة علاجها في الخارج، إلا أن الاحتلال منعها من السفر.
مكثت في مستشفى دار السلام قرب خانيونس إلى أن تم إخراجها من المستشفى تحت وابلٍ كثيفٍ من نيران المدفعية وقصف الطيران الحربي الإسرائيلي، ثم علمت باستشهاد زوجها بعد أيام من إخفاء أهلها الخبر، في السادس عشر من نوفمبر/ تشرين الأول. حينها، توقفت صابرين تماماً عن الكلام والحركة وأسلمت روحها في السادس عشر من ديسمبر/ كانون الأول.
قبل وفاتها، كتبت تُوصي الأحياء بطفلتيها اللتين تعيشان النزوح والخوف واليتم. تقول إنها التقت بزوجها وحبيبها وسندها محمود، لتصف نعيم الجنة بالقول: "هنا مكان لطيف وجميل للغاية يقصده الصالحون بعد الموت، وهو عبارة عن نعيم كامل، لا يوجد فيها أي نقص، فيعيش فيها الإنسان سعيداً وخالداً بدون موت". وذكرت أن أسماء الجنة تطابقت مع إبرائها من مرضها فكانت دار السلام تطابق آخر مستشفى دخلته في رحلة عذابات الابتلاء من بعد مجمع الشفاء ومركز الحسين والتركي وغيرها، ودار المتقين حيث تكافأ هي على تقواها في حياتها العملية في مستشفى الرنتيسي وفي كل محطة عمل وفي بيتها وفي كل مكان، وجنة المأوى ليؤويها الله ويجمعها بزوجها وحبيبها محمود، متمنية أن يجمعها الله بكل الأحباب، لا سيما شقيق الروح إبراهيم الذي يكمل دراسة الدكتوراه في ماليزيا.