تضم الصين جيشاً ضخماً من الموظفين والعمال يضم مئات ملايين الشباب. وتفيد تقديرات محلية أن عدد الموظفين في الجمهورية الشعبية يصل إلى 733 مليوناً تتراوح أعمارهم بين 22 و42. وتعتبر هذه الفئة الأكثر انقياداً في المجتمع الصيني، ويصف بعض الشباب أنفسهم بأنهم "مجرد ماشية لدى أرباب العمل" لأنهم منزوعو الإرادة، ومفرّغون من المشاعر الإنسانية التي تآكلت تحت عجلات ما يعرف بقطار التنمية.
ويرى مراقبون أن تداعيات هذه الحال بدأت تظهر من خلال سلوكيات وظواهر اجتماعية غير صحية، مثل تآكل العلاقات الأسرية، وتراجع مفاهيم الأمومة والأبوة والزواج، وأيضاً في بروز جيل لا يكترث بشيء، وغير مستعد للخوض في الشؤون العامة والانخراط في المسائل والقضايا الوطنية.
تعاني لين وي، وهي موظفة في شركة لتصنيع العطور بمدينة جونغ شان (جنوب) من مشكلة الرهاب الاجتماعي بسبب ضوابط أسرية واجتماعية متراكمة، ما ينعكس على أدائها في العمل الذي يتطلب التحدث مع الزبائن ومقابلة الوكلاء، والمشاركة في فعاليات وأنشطة تنظمها الشركة بين حين وآخر. وتقول لـ"العربي الجديد": "منذ أن كنت طفلة كانت أمي تحثني دائماً على تقديم فروض الولاء والطاعة لمن هم أكبر مني سناً من الأهل والأقرباء. ورافقني هذا السلوك في مراحل عمرية مختلفة، ففي المرحلة الإعدادية كنت مطالبة بالتغاضي عن إساءات زميلات دراسة أكبر مني سناً. وتكرر الأمر لاحقاً في المرحلة الجامعية، وأيضاً حين دخلت مجال العمل إذ كانت أول نصيحة من والدي أن أستمع وأنفذ كل أوامر المدراء باعتبارهم أولياء نعمتي".
تضيف: "تشكلت في هذه الأجواء شخصيتي الخجولة التي ترفض أي تمرد أو عصيان، ولازمني شعور بأن كل ما يصدر عن الآخرين هو صواب، وما أقوم به شخصياً قد يكون خاطئاً أو يفتقر إلى الدقة والإتقان. وانعكس هذا الأمر على سلوكي فأصبحت أخشى المشاركة في المناسبات الاجتماعية، وفي إحدى المرات طُلب مني أن ألقي كلمة أمام حشد من الناس فشعرت بحرج شديد، وبدأ جسمي يرتجف وجبهتي تتصبب عرقاً، ووددت حينها لو أنني أستطيع أن أحفر بأصابعي حفرة كبيرة كي أخفي نفسي. لا أعتقد أن هناك أسوأ من هذا الشعور. إنه أشبه بإعدام علني".
من جهته، يقول دا تسونغ، وهو مندوب مبيعات في شركة تنظيف بمدينة كوانزو، لـ"العربي الجديد": "لا يهمني الانخراط في الشأن العام، ما دام لدي عمل ومرتب شهري. بالنسبة لي الوظيفة فوق كل شيء، وفي سبيل الحفاظ عليها أنا مستعد للتضحية بأي شيء لأنها توفر لي ببساطة كل ما أرغب به".
يضيف: "في إحدى المرات، حاول بعض الموظفين في الشركة تنظيم إضراب عن العمل للحصول على امتيازات أفضل، وفي النهاية خسر هؤلاء عملهم واستقدم المدير موظفين آخرين. كان ذلك درساً للجميع بأن الشركة لا تقف على موظف، وأي محاولة للتمرد محكومة بالفشل. ومنذ ذلك الحين لم تشهد الشركة أي اضطرابات".
ويعتقد دا تسونغ بأن "الموظف وُجد في مكانه من أجل تنفيذ أوامر وخطط المدير وليس من أجل التمرد عليها. وفي حال لم يعجبه ذلك يمكن أن يترك الشركة ويبحث عن وظيفة أخرى تلبي احتياجاته من دون الانخراط في ممارسات لتغيير قوانين العمل التي لم تسن بطبيعة الحال من أجله".
ويعلّق العضو السابق في نقابة عمال الجنوب، وانغ بينغ، بالقول لـ"العربي الجديد": "حالة اللامبالاة قاسم مشترك بين جميع الموظفين الشباب الذين يعتبرون الوظيفة صحن أرز حديديا لا يمكن كسره، وأنهم سيموتون جوعاً في حال جُردوا منه. وهذه الحال تنسحب على كل شرائح الشباب في المجتمع الصيني، فغالبيتهم لا يكترثون بما يحصل حولهم سواء في مجال الاقتصاد أو السياسة أو الاجتماع".
ويرجع ذلك إلى "الخطط التي وضعتها الحكومات السابقة من أجل النهوض بالاقتصاد منذ حملة القفزة الكبرى في خمسينيات القرن الماضي التي أطلقها الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ، والتي هدفت إلى نقل البلاد من الزراعة إلى الصناعة، مروراً بسياسة الإصلاح والانفتاح في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وصولاً إلى تربع الصين اليوم على عرش الاقتصاد العالمي إلى جانب الولايات المتحدة".
ويعتبر وانغ أن المراحل السابقة شهدت تنفيذ سياسات اقتصادية طموحة على حساب العلاقات الاجتماعية والأسرية، وأن هذه السياسات فُرضت ضمن ضوابط صارمة حوّلت ملايين الشباب إلى مجرد آلات وأدوات تنفيذ. وفي بعض المحطات لم تفرّق بين الذكر والأنثى على صعيد القدرة الإنتاجية".
يضيف: "ترافق تنفيذ هذه الخطط مع ضخ أفكار في المجتمع الصيني تبجّل أرباب العمل وتُلزم العامة بالولاء والطاعة. واليوم نلاحظ جيلاً مفرغاً عبارة عن وعاء يملأه أصحاب القرار من أرباب العمل والسلطة بما يرغبون، وبالتالي هذا الجيل غير قادر على أخذ زمام المبادرة، ومعرّض للتشتت والاستغلال في إطار ما يُعرف بموجات الغزو الثقافي الغربي التي تهدد الهوية القومية.