بعد سنوات النزوح الطويلة لسوريين كُثر خارج مناطقهم، تنتشر ظاهرة إطلاق أسماء هذه المناطق أو أحد معالمها على متاجرهم أو حتى أبنائهم، ما يعطيهم إحساساً أكبر بالانتماء لهذه المناطق التي يمنع التدمير والتغييرات في القوى التي تسيطر عليها عودتهم إليها. يقول إبراهيم عبدو (40 عاماً) النازح من الغوطة الشرقية بريف دمشق لـ"العربي الجديد": "خرجت من بلدتي تحت القصف قبل نحو ثماني سنوات. كنت أملك معرضاً لبيع المفروشات وورشة نجارة ضمن مصلحة ورثتها عن والدي وعائلتي. وعندما استقررت في أحد أحياء دمشق فتحت مجدداً معرضاً لبيع المفروشات، واقترحت على والدي أن نسميه باسم بلدتنا التي ترك خروجنا منها جرحاً كبيراً لدينا، كما أن بلدتنا تتمتع بسمعة جيدة بين السوريين في صناعة الأثاث". يضيف: "شعرنا في البداية أن الاسم يثير خوف الناس لأن منطقتنا تحولت إلى تهمة بسبب خروج تظاهرات ضد النظام فيها. لكن مع مرور الوقت، بدأنا نتواصل مع زبائننا الذين أتى كُثر منهم من دمشق والمنطقة الجنوبية، وتحسن العمل وأصبح اسم بلدتنا مصدراً للثقة".
من جهته، أطلق عبدالله الغجران (56 عاماً) اسم "بقالية الدير" على محله في إحدى ضواحي دمشق. ويقول لـ"العربي الجديد": "عشت كل عمري في محافظة دير الزور، ولم أفكر يوماً بالخروج منها، لكن الحرب ومخاطرها على عائلتي أجبرتني على التوجه إلى دمشق، حيث أنشأت محل بقالة لبيع المواد الغذائية وأطلقت عليه اسم محافظتي، الأمر الذي عزز ارتباطي أكثر ببلدي". يضيف: "جعلني الاسم أتعرف على كثير من أهل الدير النازحين في المنطقة، وهم يدخلون إلى المحل للتعرف علي وعلى منطقتي، فأصبح يجمعنا ويتواجد فيه عدة أشخاص يومياً. يجتمعون لشرب الشاي، والتحدث عن ذكريات الدير، والأحداث التي تجري فيه يومياً، ودائرة معارفنا تزداد يوماً بعد آخر، فهناك أشخاص كُثر مثلي محرومون من الذهاب إلى بلداتهم منذ سنوات. ونحن نتمنى جميعاً العودة إلى محافظتنا لأننا نشعر بغربة كبيرة، ونترقب الأخبار الجيدة من الدير".
أيضاً، يقول أنس ناصر (45 عاماً) الذي نزح منذ سنوات من حلب إلى دمشق لـ"العربي الجديد": "لم أتوقع أن ابتعاد الإنسان عن أرضه ومنزله ومدينته أمر صعب جداً، رغم أنني مستقر نوعاً ما ولدي عمل، ويوماً بعد آخر أحن أكثر فأكثر لكل تفاصيل المدينة والجيران والأصدقاء في منطقتي، لكن عندما أشاهد صور الدمار والخراب الذي طاولها، أخشى الذهاب ومواجهة هذه المشاهد التي تفقدني الصور الجميلة التي ما تزال عالقة في ذاكرتي. وقد سميت ابنتي الصغيرة التي لم تكمل عامها الثاني حلب، وأشعر بسعادة كلما ناديتها باسمها".
ويعلّق عبد الرحمن سلطان (58 عاماً) الذي نزح أيضاً من حلب إلى دمشق، في حديثه لـ"العربي الجديد": "عندما أمرّ اليوم أمام أي متجر يحمل اسماً يدل على اسم حلب أو أحد أحيائها أو حتى مناطق ريفها، لا أستطيع أن أمنع نفسي من الدخول، وأحاول أن أتعرف على صاحب المحل ومن أي منطقة جاء". يضيف: "رغم أننا في بلدنا، لكننا نشعر بغربة، لذا نكون سعداء عندما نتعرف على أشخاص من المحافظة أو المدينة ذاتها. نشعر أن ذكريات وهموماً يومية تجمعنا من ضيق العيش وارتفاع الأسعار وإيجارات المنازل، فهذه الأحاديث تخفف عنا معاناة كثيرة".
وتقول مريم (32 عاماً) النازحة من حمص إلى دمشق لـ"العربي الجديد": "عندما أجد محل بقالة أو متجراً كتب عليه الحمصي أو أي اسم مرتبط بحمص، أشعر أنني أريد لا إرادياً الشراء منه. كأنني أشتم رائحة حمص في هذه المتاجر، وأستعيد ذكريات جميلة كانت لنا فيها". تضيف: "تحمل متاجر كثيرة أسماء مناطق سورية، وأشخاص كُثر يحبونها إلى جانب أبناء هذه المناطق نفسها، خاصة إذا كانت تبيع مواد غذائية أو أشياء مشهورة".
بدوره، يرى الناشط خالد الشامي (29 عاماً)، وهو اسم مستعار لأسباب خاصة، والذي يعمل في جمعية تهتم بشؤون النازحين: "يملك نازحون كُثر مشاعر حنين لمناطقهم، ويحلمون بالعودة إليها، لكن عوامل كثيرة تمنع تحقيقهم هذا الحلم، وأولها الدمار الذي لحق بالمناطق، وعدم وجود مشاريع لإعادة إعمارها، في حين لا يملك غالبية النازحين القدرة المادية لترميم منازلهم. كما تعرقل الإجراءات الأمنية التي يتبعها النظام جراء المراجعات الأمنية الكثيرة التي تثير مخاوف الناس، عودة الحياة إليها، ويقلص فرص العمل والحركة الاقتصادية فيها. من هنا يفضل الناس البقاء في مناطق نزوحهم حيث تتمتع بالحد الأدنى من الاستقرار".
وحول انتشار ظاهرة تسمية المتاجر وحتى الورش الحرفية بأسماء مناطق مختلفة من سورية، يرى الشامي "أن الظاهرة قد تكون واحدة من أشكال التعبير التي يظهر بها عمق ارتباط السوريين بمناطقهم، وامتلاكهم مشاعر حنين إليها. وهذه الظاهرة موجودة في دمشق ومناطق أخرى كانت وجهة للنزوح هرباً من الحرب والأعمال العسكرية". ويلفت إلى أن "الانتماء الطبيعي والتعبير عن هوية الشخص يؤثر على هذه الظاهرة التي تشكل أيضاً محاولة لجذب الزبائن إلى المحلات، خاصة إذا كانت هذه المنطقة تضم أعداداً من النازحين. كما قد تقدم هذه المحلات بضاعة تشتهر بها هذه المناطق، وينطبق ذلك على الحرف، فهناك ذاكرة جماعية تعطي المناطق السورية ميزات إيجابية في بعض المنتجات أو الحرف، ما يشكل قيمة مضافة للمنتجات، فمثلاً يقال إن الطماطم المعروفة باسم البندورة الحورانية من درعا (جنوب)، والعنب والتفاح من السويداء، والزيت من إدلب، والحلاوة من حمص، وحلاوة الجبن من حماة، والحرف المهنية من حلب، والمشمش من غوطة دمشق. كل منطقة تمتلك ميزة في شيء ما".