لم يخلِ الفسطيني محمود شلبي منزله في شمال غزة على الرغم من الأوامر الإسرائيلية ومن التهديدات التي يطلقها الاحتلال في ما يخصّ هجوم بري وشيك، وذلك في حين تستمرّ آلة الحرب الإسرائيلية باستهداف كلّ مناطق قطاع غزة من دون استثناء.
وشلبي هو واحد من عمّال الإغاثة الذين يجهدون وسط العدوان الإسرائيلي المتواصل منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، وما زال يصرّ على البقاء في الشمال شأنه شأن مئات آلاف آخرين. يُذكر أنّ آلاف العائلات توجّهت جنوباً بحسب أوامر الاحتلال، غير أنّ عدداً منها عاد إلى شمال القطاع.
ويقول شلبي إنّ لا معنى لمغادرة منزله في بيت لاهيا، نظراً إلى القصف المتواصل الذي يستهدف جنوبي قطاع غزة، على الرغم من أنّ الاحتلال كان قد ادّعى أنّه أكثر أماناً. كذلك، أدّى اكتظاظ الملاجئ ونقص المياه والغذاء في الجنوب دوراً في قرار البقاء في الشمال، بحسب ما يؤكد شلبي وآخرون من الذين بقوا. بالنسبة إليهم، فإنّهم في مواجهة خطر الموت أينما كانوا في غزة، في ديارهم أو في أيّ مكان آخر.
ويرى شلبي أنّ المغادرة لن تكون منطقية إلا إذا توقّف الاحتلال الإسرائيلي عن استهداف الجنوب، ويضيف أنّه "من غير المنطقي بالنسبة إليّ ترك منزلي لأذهب وأُقتل في خيمة في جنوب غزة". يُذكّر أنّ شلبي بأنّه يعمل في جمعية "المساعدات الطبية للفلسطينيين" (ماب)، وهي مؤسسة خيرية مقرّها المملكة المتحدة توفّر الرعاية الصحية والطبية للفلسطينيين الأكثر تضرّراً من النزاع والاحتلال والتشرّد.
وبحسب وزارة الصحة في غزة، فمن المرجّح أن ترتفع المخاطر التي يواجهها الفلسطينيون المقيمون في شمال القطاع بشكل كبير في حالة وقوع هجوم بري إسرائيلي متوقّع، بعد نحو أسبوعَين ونصف أسبوع من القصف العنيف الذي أودى بحياة أكثر من 6500 شخص في القطاع. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد صرّح، أمس الأربعاء، بالاستعداد لتوغّل بري، رافضاً الإفصاح عن موعد لذلك، في حين يُحشَد عشرات الآلاف من عناصر القوات الإسرائيلية.
وانتقدت منظمات حقوقية دولية وأخرى أممية بشدّة أوامر الإخلاء الإسرائيلية التي لا تحترم القانون الدولي، بسبب عدم توفّر خيارات واقعية لسكان شمالي غزة.
For people who can’t evacuate, advance warnings make no difference. The United Nations intends to deliver aid wherever people in need are located. #NotATarget
— Lynn Hastings (@LynnHastings) October 26, 2023
Read my full statement about evacuation notifications to #Gaza residents here: https://t.co/MkGUg3LaIC pic.twitter.com/tqe4rXAMNz
وقالت المنسقة الأممية للشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة لين هاستينغز إنّه "عندما تُقصَف الطرقات الخاصة بالإجلاء، وعندما يجد الناس في الشمال والجنوب أنفسهم عالقين في الأعمال العدائية، وعندما تنعدم أساسيات البقاء على قيد الحياة، وعندما لا تتوفّر ضمانات للعودة، فإنّه لا يبقى أمام الناس إلا خيارات مستحيلة"، مشدّدة على أنّه "لا يتوفّر مكان آمن في غزة".
وكان المفوّض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) فيليب لازاريني قد أفاد بدوره، أخيراً، بأنّ "لا مكان آمناً في غزة اليوم"، في الوقت الذي تزعم فيه سلطات الاحتلال أنّها دفعت سكان شمالي قطاع غزة إلى جنوبيه لأنّه "آمن".
ويستعدّ أهالي غزة الذين بقوا في الشمال للأسوأ. هم يعيشون بين أنقاض الأحياء التي كانت تعجّ بالحركة في السابق، في حين يواجهون نقصاً حاداً في الوقود والغذاء والمياه (علماً أنّ ذلك لا يختلف عن الحنوب) إلى جانب إغلاق للمستشفيات يلوح في الأفق.
وبحسب بيانات أممية، فقد تهجّر حتى الآن أكثر من 1.4 مليون من سكان قطاع غزة وتحوّلوا إلى نازحين، من بين نحو 2.3 مليون نسمة في القطاع المحاصر. وقد لجأت أعداد من هؤلاء إلى منشآت تابعة للأمم المتحدة، لا سيّما مدارس وكالة أونروا التي تخطّت طاقتها الاستيعابية بأربعة أضعاف.
ويصف شلبي واقع الحال في شمال غزة، حيث تحوّلت أحياء بأكملها إلى أنقاض، قائلاً إنّ "الحطام في كلّ مكان. ثمّة سيارات مدمّرة، وثمّة منازل مدمرة. ومن الصعب فعلاً الانتقال من مكان إلى آخر بسبب عدم توفّر الوقود".
ويخبر أنّه سار مدّة ساعتَين قبل أن يعثر على فرن ما زال يبيع الخبز، لإطعام أسرته المكوّنة من 10 أفراد، في حين يشير إلى أنّ أرفف المتاجر فارغة وثمّة من يعيش على الفاصولياء والأناناس والذرة المعلّبة.
أمّا الوقود، فإنّ القليل منه ما زال متوفراً فقط، وهو في الغالب من المخزونات الخاصة، ويُباع بأسعار خيالية. كذلك، يعمد أشخاص إلى تأجير محرّكات صغيرة لمضخّات المياه في مقابل 12 دولاراً أميركياً للساعة الواحدة، وهو مبلغ يُعَدّ ضخماً بالنسبة إلى مواطن عادي في غزة.
ويقرّ شلبي بأنّ المال لديه نفد كلياً هذا الأسبوع، لذا راح يبحث في الشوارع المتداعية علّه يعثر على ماكينة صرّاف آلي غير معطّلة، لكنّه لم يجد أيّ واحدة.
من جهة أخرى، يقيم نحو 50 ألف شخص في فناء مجمّع الشفاء الطبي في مدينة غزة، الذي يُعَدّ أكبر مستشفيات المدينة. كذلك، يكتظّ المستشفى نتيجة التدفّق المستمر للجرحى الذين أُصيبوا خلال الغارات الجوية، وسط تحذيرات مستمرّة من أنّ النقص الحاد في الوقود اللازم لتشغيل المولدات الكهربائية قد يؤدّي إلى إغلاق المستشفى.
ومنذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في السابع من أكتوبر الجاري بعد عملية "طوفان الأقصى"، لم يُسمح بإدخال الوقود إلى القطاع الذي أُحكم حصاره كلياً. وعلى الرغم من أنّ منظمة الصحة العالمية شدّدت في أكثر من مناسبة على وجوب إدخال الوقود في إطار المساعدات التي تمرّ من خلال معبر رفح أخيراً، فإنّ الاحتلال يرفض حتى مناقشة ذلك.
وعلى الرغم من الواقع المأساوي، يختار فلسطينيون العودة إلى الشمال، بعد أن سئموا من التنقّل من مكان إلى آخر تحت النيران الإسرائيلية، في حين صارت الملاجئ مكتظة وغير صالحة للعيش. وبحسب تقديرات مراقبين لدى الأمم المتحدة، فإنّ 30 ألف فلسطيني تقريباً عادوا إلى الشمال.
إخلاص أحمد البالغة من العمر 24 عاماً، وهي امرأة حامل في شهرها الثامن، من بين الذين عادوا. وقبل أسبوع، فرّت إخلاص من مدينة غزة بعد الأوامر الإسرائيلية المتكرّرة بالانتقال جنوباً. لكنّها عادت بعدما تعرّض المنزل الذي كانت تحتمي فيه مع 14 من أفراد العائلة في الجنوب لقصف جوي إسرائيلي. وتقول: "كان مبنى سكنياً (كما هي الحال مع المباني المستهدفة بمعظمها)، وعلى الرغم من ذلك قصفوه". ولا تخفي إخلاص، وهي أمّ لصبيّ يبلغ من العمر أربعة أعوام، أنّها تأمل وقفاً لإطلاق النار، مشدّدةً "أنا خائفة جداً. كلّنا خائفون".
(أسوشييتد برس، العربي الجديد)