استمع إلى الملخص
- السكان المحليون يعانون من آثار سلبية مثل انتشار الحشرات والروائح الكريهة، مع شكاوى متزايدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بينما تفتقر السلطات للفعالية في التصدي لهذه الممارسات.
- الحكومة السورية لم تظهر اهتمامًا كافيًا لمعالجة الأزمة، مما يساهم في استمرار وتفاقم المشكلة، ويعرض السكان لمخاطر صحية جسيمة، خاصة الأطفال والمسنين.
تفاقمت خلال الحرب السورية أزمة ري المزروعات بمياه الصرف الصحي، وأصبحت أمراً خطيراً يهدد صحة المواطن السوري بعدما انتشرت على نطاق واسع في محيط المدن الكبرى وعلى ضفاف الأنهر الملوثة، إلى حد باتت فيه شبكات الصرف الصحي والسواقي الملوثة مصدر الري الرئيسي لكبرى المزارع في سورية.
وليست هذه الظاهرة بالجديدة، فقد انتشرت بشكل محدود قبل الحرب، وخصوصاً في أرياف دمشق وحلب على الرغم من محاولات مديريات الزراعة التابعة للنظام السوري الحد منها. والمشكلة أن يعمم هذا النوع من الري كبديل إلزامي في ظل غياب إمكانية الري بالمياه العذبة.
وهناك عشرات الشكاوى اليومية لسكان أرياف المدن السورية وخصوصاً الكبرى منها ومناشدات لمسؤولي الزراعة والصحة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تتحدث بالأرقام عن التعديات الكثيرة على شبكات الصرف الصحي وتسيير أقنية مكشوفة منها بهدف ري المزروعات، من دون أي اهتمام لانتشار الحشرات الضارة والروائح الكريهة.
ويقول محمد ضاهر، وهو من سكان منطقة كفرسوسة في العاصمة دمشق، لـ"العربي الجديد"، إن سكان المنطقة يعانون بسبب الانتشار الكبير للحشرات والناموس والرائحة الكريهة طوال فصل الصيف، نتيحة تعدي المزارعين على خطوط الصرف الصحي وفتح أقنية مكشوفة، على الرغم من امتلاك معظمهم آبار مياه عذبة أو صالحة للزراعة، وغالباً ما يتذرعون بمشاكل التيار الكهربائي وتكاليف الري الباهظة، وييسرون أمورهم مع مراقبي مديرية الزراعة من دون أدنى اهتمام بحياة وصحة الناس الذين يشمون هذه الروائح ليلاً نهاراً، أو يتناولون هذه الخضار. يضيف ضاهر: "في كل عام نلجأ إلى الجهات المسؤولة للحد من هذه الكارثة البيئية من دون أن نجد آذاناً صاغية".
باتت شبكات الصرف الصحي والسواقي الملوثة مصدر ري رئيسي
وفي وقت سابق، قال مدير زراعة ريف دمشق عرفان زيادة، لصحيفة "تشرين" السورية الرسمية، إن استخدام الفلاحين للمياه الملوثة يرتبط بتضرر أعداد كبيرة من آبار المياه الجوفية التي كانوا يعتمدون عليها نتيجة الحرب وضعف الإمكانات الخدماتية كالكهرباء والوقود وغيره. ويستدرك بأن هذا لا يبرر التعدي على شبكات الصرف الصحي والسقاية بالمياه الملوثة، لما تحتويه هذه من طفيليات وفيروسات وبكتيريا تسبب العديد من الأمراض والأوبئة. يضيف أن المديرية تحاول منع ذلك عن طريق تحرير مخالفات بحق المزارعين الذين يروون الأراضي الزراعية بالمياه الملوثة وتحويلها للقضاء.
ويبين زيادة أن هذه الزراعة تمتد على أراض شاسعة في ريف دمشق، وخصوصاً في الأحياء القريبة من العاصمة وبلدات الغوطة عامة، مثل داريا وقطنا وبيت سحم والتل ودوما والقطيفة والنبك وغيرها من البلدات الكبيرة، أو التي تمر عبر أراضيها شبكات الصرف الصحي.
ولم تبد حكومة النظام السوري الاهتمام الكافي لتجنب أخطار التلوث البيئي في السابق، فلم تنجز شبكات الصرف الصحي الكافية والمحمية من التخريب، ولم تجد الحلول المناسبة للأنهار الملوثة، ولا يزال سكان المدن الكبرى يعانون من الآثار السلبية لنهر قليط في دمشق ونهر قويق في حلب. وعلى العكس من ذلك، ساهمت الحكومة بتحويل نهر بردى ذي المنشأ العذب والذي تتربع على ضفتيه أهم المتنزهات والمطاعم السياحية في بلدات الربوة ودمّر والهامة قبل أن يعبر قلب العاصمة دمشق ليصبح محملاً بمياه شبكات الصرف الصحي ومخلفات المعامل والمصانع وغيرها، وصولاً إلى مناطق الغوطة الشرقية.
كما أنها لم تكافح ظاهرة الري بالمياه الملوثة حالياً، بل وجدت فيها حلولاً مناسبة لمشاكل المزارعين ومعاناتهم للحصول على خدمات الكهرباء والوقود وآبار المياه الجوفية وشبكات الري الصحية، وفي الوقت نفسه فرصة لابتزاز المزارعين وفرض الإتاوات.
يعاني السكان من تلوث نهر قليط في دمشق ونهر قويق في حلب
ويقول نادر الجفان، وهو أحد العاملين في سوق الهال في دمشق، لـ"العربي الجديد": "لا يمكن أن نميز بين الخضار والفاكهة المروية بمياه عذبة عن تلك المروية بالمياه الملوثة إلا من خلال معرفة المزارعين والمناطق الزراعية بشكل مباشر. بالتالي، لم نعد نهتم بمصدر معظم الخضار الصيفية مثل الخس والخيار والبندورة والملفوف والباذنجان والملوخية والنعناع والذرة والكثير من المنتاجات الزراعية".
يضيف: "ندرك تماماً أنها تسبب الكثير من الأمراض وخصوصاً للأطفال والمسنين، وقد تودي بحياة الكثيرين منهم، لكن ليس باليد حيلة. لم نعد قادرين على الاستغناء عنها ونحن من يتناولها أولاً وقبل غيرنا".
ويقول الطبيب المتخصص في أمراض الدم إياد الدويري، لـ"العربي الجديد"، إن المياه الملوثة تتضمن ملوثات بيولوجية، مثل القولونيات البرازية، السالمونيلا، المتحول الزحاري، بيوض الديدان، وملوثات كيميائية ذات تركيز عال، وخصوصاً الأملاح والمعادن الثقيلة الملوثة كالرصاص والزئبق والزرنيخ وغيرها. يضيف: "نحن أمام وضع صحي خطير قد يؤدي إلى أمراض عارضة وأمراض مزمنة وضعف في المناعة وخصوصاً لدى الأطفال، وضعف في النمو، وصولاً إلى تراجع في معدلات الأعمار".
وينبه الدويري إلى خطورة الخضار التي تؤكل نيئة، مثل البقدونس والكزبرة والخس والطرخوم وغيرها، بالإضافة إلى الخضار التي تُسقى عن طريق الرش، ما يؤدي إلى تلوث أوراق النباتات، وهو ما ينتقل إلى الإنسان بشكل مباشر.
ولم يكن الوضع في أحسن حال في بقية المحافظات السورية، كمدن حمص وحماه ودرعا وحلب، وهي المناطق الأكثر إنتاجاً للمزروعات الموسمية. وحاولت مديرية زراعة حلب الحد من انتشارها الواسع في الريف الزراعي المحيط بالمدينة، كمناطق النيرب والأنصاري والشيخ سعد وغيرها من المناطق والبلدات التي أصبحت واضحة للمواطنين والسلطات المسؤولة وبشكل فاضح. والخطورة الأكبر في استخدام شبكات وأقنية المياه الملوثة تكمن في تسرب هذه المياه واختلاطها مع مياه الآبار العذبة، فقد أصاب مرض التهاب الكبد الوبائي 140 تلميذاً خلال أيام قليلة في بلدة البياضية - قضاء مصياف، في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2022 وذلك نتيجة اختلاط المياه.
إلى ذلك، يقول المزارع نبيل الغزاوي، وهو من أهالي محافظة درعا، لـ"العربي الجديد": "كانت كل مزروعات المحافظة تعتمد على مياه الأمطار ومياه الآبار العذبة والسدود والأقنية النظيفة. أما بعد الحرب، فقد لجأ العديد من المزارعين للري بمياه شبكات الصرف الصحي والأقنية الملوثة لأسباب عدة، لعل أهمها عدم توفر الخدمات السابقة والغلاء الفاحش في أسعار الطاقة البديلة والمازوت والنقل وغيرها من احتياجات المزارعين. والأهم من هذا عدم وجود الأمن والأمان على تجهيزات الآبار الجوفية أو شبكات الري الصحية". يضيف: "يوماً بعد يوم بتنا لا نسأل عن مصدر هذه المنتجات وكيفية ريها ونسعى جاهدين لزرع حاجاتنا الرئيسية منها في حقولنا الخاصة والقريبة من المنازل، علنا نقي أطفالنا بعض أضرار التلوث والأمراض"، ويختم توصيف الظاهرة بأنها الموت المخفي الملازم للسكان في سورية من دون أن يدركوا ذلك.