رابح بن سعيد... حراسة روح شعب الجزائر بالحكايات

22 ديسمبر 2022
رابح بن سعيد خلال أحد عروضه (العربي الجديد)
+ الخط -

كانت الجزائر حين ولد رابح بن سعيد في عام 1968؛ تتأهب لأن تثبت للاحتلال الفرنسي، وللعالم، أنها جديرة باستقلالها الذي افتكته في عام 1962، بمئات الآلاف من الشهداء والجرحى والمفقودين والمنفيين؛ فأطلقت جملة من السياسات والبرامج في مجالات التعليم والاقتصاد والصناعة والزراعة والسياسة الخارجية أهلتها لأن تكون ضمن دول العالم الثالث المتزعمة لخطاب التحرر.
شارك أبوه في الحرب العالمية الثانية، وفي حرب فيتنام، وفي ثورة التحرير الجزائرية، وقام بإلحاق طفله الوحيد شقيق الخمس بنات بالمدرسة في ولاية تيارت (600 كيلومتر جنوب الجزائر العاصمة)؛ ثم راح يعامله بصفته رجلاً. يقول رابح: "أقنعني على صغري، بأن معركة جيلي هي التنوير، مثلما كانت معركة جيله هي التحرير؛ لذا لم يكن يجوز لي أن أشكو من الصعوبات التي كانت تعترض التلميذ الفقير المقيم في منطقة نائية. حينها كانت المدارس قليلة، وكان الوصول إليها يتطلب سفراً يومياً".

يسترجع رابح تلك التجربة قائلاً: "كنت أمتلك حذاء مطاطيا واحدا، وسروالا واحدا، وكنت يومياً أتناول وجبة باردة واحدة؛ وكانت الحمير والبغال هي وسيلة التنقل الوحيدة؛ فكنا مجموعة من الأطفال يشكلون موكباً يومياً نحو المدرسة البعيدة، ونتغلب على مشقة الطريق بالأحاديث التي تسمى في اللهجة الجزائرية الدارجة (القصرة)، وتعني تقصير الطريق الطويل بالكلام. كنت أنام ليلاً على حكايات شعبية ترويها أمي وخالتي وجدتي؛ ثم أرويها لرفقاء المدرسة خلال القصرة في الصباح".
كان الطفل رابح يفعل ذلك ليتغلب على متاعب المسافة؛ لكنه لاحظ إعجاب "جمهوره" من رفاقه الأطفال بحكاياته، فبات ذلك يشكل دافعاً إضافياً له لجمع الحكايات التي ترويها سيدات العائلة ليلاً، ليرويها نهاراً لزملائه.
ويعتبر العرف الشعبي في الجزائر سرد الحكايات في النهار مكروهاً. لم يكن بن سعيد وقتها يعرف ذلك، فلم يكن يفهم سبب قيام بعض الأطفال بالتقدم عن الموكب قليلاً أو التأخر عنه حتى لا يسمعوا حكاياته؛ فسألهم عن الأمر، فقالوا له إن أسرهم أخبرتهم أن الحكايات لا تروى إلا في الليل، وذكروا له عبارة كانت سائدة، تقول: "اللي يحكي في الليل ياكل بيضات الوعيل (العصفور)، واللي يحكي في النهار يأكل بيضات الحمار"؛ فقرر الكف عن الحكي، وهو الموقف الذي رفضه بقية أطفال الموكب المدرسي، وعملوا على إثنائه عنه؛ فعاد إلى الحكايات مجدداً.

الصورة
يحرص رابح بن سعيد على دمج جمهوره في الحكاية (العربي الجديد)
يحرص رابح بن سعيد على دمج جمهوره في الحكاية (العربي الجديد)

يقول رابح لـ"العربي الجديد": "لم نكن نعي أننا بكسرنا لتلك العادة كنا منسجمين مع الخطاب السياسي والمدرسي السائد، حينها، كان يراد تشكيل وعي جديد لدى الشاب الجزائري يقوم على التشبث بالتراث الوطني بالموازاة مع نزعة تحررية وحداثية يسارية لا تؤمن بالقيود على حرية التفكير؛ فكان الطلبة في صدارة المتطوعين لشرح مبادئ السياسة الاشتراكية التي تبناها الرئيس هواري بومدين".
لم تعد الحكايات التي كان يستقيها رابح بن سعيد من البيت كافية؛ فصار يبحث عن المزيد في الحلقات الحكواتية التي كانت تقام بالأسواق الشعبية؛ خاصة بعد أن انتقل إلى الدراسة في مدينة مستغانم المعروفة تاريخياً بكونها عاصمة المسرح في الجزائر؛ إذ تأسس فيها أقدم مهرجان لمسرح الهواة في أفريقيا في عام 1964؛ وكانت أسواقها الشعبية منصات فنية وثقافية.
يسأل العم رابح: "لماذا تقل الدراسات والبحوث التي ترصد أهمية ما قدمته الأسواق الشعبية من خدمات جليلة للثقافة الوطنية في الجزائر؟ لقد كانت واحدة من الحقول التي زرعت الوعي التحرري في الأذهان والوجدان من خلال الرسائل التحررية المبطنة التي كانت تتضمنها الحكايات والأغاني؛ ما مهد للثورة في عام 1954؛ ثم ساهمت في تكريس خطاب البناء والتشييد بعد الاستقلال".

الصورة
الحكاياات جزء مهم من تراث الجزائريين (العربي الجديد)
الحكايات جزء مهم من تراث الجزائريين (العربي الجديد)

ارتبطت الحكاية في ذهن ووجدان رابح بن سعيد بترسيخ القيم الإنسانية والوطنية؛ فقرر أن يسخرها للفت انتباه الأجيال إلى أن الحياة معركة مفتوحة ضد الشر والكراهية والأحقاد؛ وضد الكسل والتواكل واليأس من إمكانية تحقيق العيش الكريم. "كانت ولا تزال حكاياتي تنتصر للإنسان المكافح، والمتحمل لمسؤولياته تجاه المكان والإنسان. لطالما ساهمت في تغيير حياة كثير من الشباب؛ ذلك أن للحكاية سحراً وسلطة خاصين؛ فكثيرون يتلقونها بصفتها حقيقة؛ ويطرحون أسئلة بخصوصها تدل على تصديقهم لها".
يقول الحكواتي الجزائري: "قد لا يحصل هذا في المجتمعات الغربية بالنظر إلى هيمنة العقل العلمي؛ لكنه يحدث في المجتمعات الشرقية التي هي مجتمعات تخييلية؛ ولا أقول خرافية؛ وإدراكنا لهذا المعطى الأنثروبولوجي يجعلنا نوظف الفنون الشعبية، ومنها الحكايات، في مرافقة عمليات التغيير العام، فلا تبقى مجرد استعراضات فلكلورية لتزيين المناسبات العابرة".
استفاد رابح من ممارسته للمسرح في اكتساب تقنيات للحكايات؛ فهو يعتقد أن الحكاية لا تستمد تأثيرها من مضمونها فقط؛ بل أيضا من طريقة تقديمها. "تعرض الحكايات في الفضاءات المفتوحة والساحات العامة، أي أن جمهورها غير ثابت، وهو غير ملزم بالبقاء؛ فإن لم يجد ما يغريه سيغادر من غير حرج أو استئذان؛ وقد يرفق مغادرته بشتيمة، أو بعبارة ساخرة".

الصورة
التطور يفرض على الحكاء تحديث أدواته (العربي الجديد)
التطور يفرض على الحكواتي تحديث أدواته (العربي الجديد)

اندلعت شرارة العنف في الجزائر، بعد توقيف المسار الانتخابي في مطلع تسعينيات القرن العشرين، فباتت الساحات العامة والفضاءات المفتوحة، وهي الحاضنة الطبيعية للحكاية، خطيرة على الحكواتي، إذ طاولت آلة القتل والاختطاف الفنانين والمثقفين، ومنهم عبد القادر علولة، وعز الدين مجوبي، حينها قرر رابح أن ينضم إلى القوات الشعبية المتطوعة لمكافحة الإرهاب.
يقول: "وجدت صعوبة في البداية في إقناع نفسي بحمل السلاح، لكنني وجدت أنني لن أبتعد عن مهمتي الإنسانية والحضارية. بسلاح الحكاية أصنع وعياً، وبالبندقية أحمي أرواحاً، وحماية الروح البشرية أولى من صناعة الوعي. كان علي أن أساهم في تحرير الساحات التي أمارس فيها حكاياتي، لكنني لم أتخل عن الحكواتي، فرحت أحكي لرفاقي من المتطوعين. كنت أستعمل الحكاية لرفع المعنويات، وترسيخ قناعة الدفاع عن الوطن".
في مرحلة ما، أدرك رابح بن سعيد أنه بصدد جيل جديد يعارض كل ما هو قديم في مسعاه إلى إثبات ذاته، فقرر أن يتخلى عن رواية الحكايات الشعبية الموروثة، وينسج حكايات من الواقع المعاش، بما يجعل مستمعيه يشعرون أنهم معنيون مباشرة بالحكاية.
يوضح: "في السابق، كان الجزائري يتقبل أن يكون موجهاً، لكن بعد التحولات التي صنعتها الوسائط الجديدة بات يرفض ذلك، ولا يقبل إلا ما يقنعه، فأصبحت في حلقاتي الحكواتية أجعل المستمعين شركاء لي في الحكي، ما يخلق حالة حميمية وحوارية".

ويدعو بن سعيد فناني الشارع في الجزائر إلى التخلص من أحكامهم المسبقة التي تقول إن فن الحكاية بات من الماضي، مؤكدا أن "الحكاية مرتبطة بالحياة، وبالتالي فهي لا تموت. ما يموت هو بعض طرق عرضها، وعلينا أن نكون مجددين في الشكل والمضمون حتى نستمر في استقطاب الأجيال الجديدة. ما معنى أن يصبح لدى الجزائر محطات مترو ومحطات قطار في شبكة طرق هي الأطول في أفريقيا، من غير أن يتخذ منها الحكواتيون فضاءات للوصول إلى الجمهور؟ الحكاية رفيقة المجتمع، وعليها أن تستمر في حراسة روحه الحضارية".

المساهمون