كانت الشمس تقترب من الغروب عندما جلست ريم ومي على رصيف بالقرب من ميدان التحرير، للاستماع إلى نبأ عاجل حول بث كلمة للرئيس المصري الراحل حسني مبارك. فتحت مي هاتفها على واحدة من إذاعات الراديو التي كانت تنقل أحداث الثورة، وتشاركت مع صديقتها ريم سماعة أذن لمتابعة كلمة مبارك. لم تتوقع أي منهما ما قد تحتويه هذه الكلمة.
كانت الفرحة عارمة عندما سمعتا عبارة ألقاها نائب رئيس الجمهورية آنذاك، اللواء عمر سليمان، نيابة عن مبارك، وجاء فيها: "أيها المواطنون. في ظل هذه الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد. قرر الرئيس محمد حسني مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية. وكلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد. والله الموفق والمستعان".
تعتبر ريم أن هذه اللحظة هي أكثر ذكرى مبهجة لديها من أيام ثورة يناير، وتتابع: "استمعت مع صديقتي للكلمة القصيرة حتى نهايتها. لا يمكن وصف سعادتنا حينها. ركضنا باتجاه ميدان التحرير لنشارك الجموع هتاف: الشعب خلاص أسقط النظام. بينما كنا نكرر هذا الهتاف. وجدنا عدداً من السلفيين من حولنا يهتفون: الله وحده أسقط النظام. لم نهتم، فالفرحة تجمعنا مهما اختلف الهتاف، فالنتيجة واحدة".
لاحقاً، توجهت مي وريم معاً إلى منزل الأخيرة، ترفعان علم مصر، وظلتا تهتفان فرحاً بسقوط مبارك طوال الطريق، وكلما مرتا بلجنة شعبية، توقفتا قليلاً للاحتفال مع أفرادها، قبل مواصلة السير نحو حي المهندسين في محافظة الجيزة، ولما وصلتا إلى قرب المنزل، كان أن شاركتا أهل الحي الهتافات والاحتفالات بـ"انتصار الثورة".
الذكرى العالقة في وجدان ياسمين، من أيام الثورة، كانت أحداث يوم 28 يناير/ كانون الثاني 2011، والذي عرف في أدبيات الثورة بيوم "جمعة الغضب"، تقول: "شاركت في المسيرة التي خرجت من مسجد الاستقامة بميدان الجيزة، وكانت الأعداد تزداد كلما اقتربنا من ميدان التحرير، لكن قنابل الغاز المسيل للدموع زادت حدتها قبيل كوبري قصر النيل الموصل إلى ميدان التحرير، وهناك فقدت وعيي لفترة، واستيقظت لأجد نفسي ممددة على الرصيف، وأمامي مذيع الراديو أحمد العسيلي يسكب على وجهي المياه الغازية لمقاومة تأثير الغاز المسيل للدموع، وكنا قد تعلمنا هذا من أحداث الثورة التونسية التي سبقتنا بأيام".
تتابع ياسمين: "لا أدري كم كان الوقت الذي فقدت فيه الوعي، لكني أذكر جيداً أنني استيقظت ممددة على الرصيف، وحرص كثيرون على البقاء بجانبي حتى أستفيق، واستكملت معهم المسير صوب الميدان. دخلنا ميدان التحرير، فوجدناه مزدحماً بالفعل، فقد سبقتنا مسيرات أخرى بالدخول، وبعد ساعات قليلة، كان هناك من يطوفون ليجمعوا الأموال لتوفير (الإعاشة)، وضمان مبيت أكبر عدد ممكن من الثوار في الميدان. دفعت بالفعل، لكنني غادرت بحلول الساعة الحادية عشرة ليلاً في اتجاه كوبري قصر النيل مرة أخرى".
حينها، بدت المنطقة المحيطة بالميدان في عيون ياسمين موحشة، فخشيت من الانتظار، "فالمنطقة حول الميدان والطرق المؤدية إليه انتشر فيها شبان وصبية على دراجات نارية، وكانت أشكالهم مختلفة عن الأشخاص في الداخل. اللون الأصفر يكسو شعورهم، وأسلحة بيضاء تتدلى من سراويلهم. بينما كان الميدان مزدحماً جداً. قررت المغادرة، والعودة غداً، بمجرد ملاحظة أشكال وتصرفات الأشخاص من حولي. عند المتحف المصري المطل على ميدان عبد المنعم رياض الملاصق لميدان التحرير، تشكلت لجان شعبية كثيفة تضم أكثر من صف للحماية من أي محاولات اختراق أو تسلل. كان الخوف من أعمال السرقة والنهب قد انتشر بالفعل".
تواصل ياسمين: "عند خروجي من الميدان في اتجاه كبري قصر النيل، كانت هناك العديد من الدراجات النارية التي يقودها شبان يبدو عليهم أنهم ينتمون إلى المناطق الشعبية. فهمت أن هناك أشخاصاً غاضبين من هذا الحشد الهائل في الميدان، وتسبب هذا في قلق كبير لدي. كما أنني أردت طمأنة أهلي، لأنه حتى مع عودة الاتصالات الهاتفية، فإن إجراء مكالمات قصيرة مع الأهل لم تكن كافية لطمأنتهم".
وعن رحلة العودة من الميدان، تحكي: "عندما اقتربنا من محطة مترو أنفاق الأوبرا، حذرنا كثيرون من استقلال المترو، والاستمرار سيراً على الأقدام كل إلى وجهته. حينها شكل عدد من الشبان دائرة بتشبيك أياديهم، وفي المنتصف سارت الفتيات في حماية الشبان، حتى ابتعدنا تماماً، واقترب كل منا من وجهته".
لا تزال كثير من ذكريات المشاركين في الثورة عالقة في عقل أسامة، وخصوصاً تفاصيل عصر يوم السبت 29 يناير، اليوم التالي لجمعة الغضب، حينها كان ميدان التحرير يمتلئ بالآلاف من المتظاهرين الذين جاؤوا من كل صوب وحدب بحثاً عن الحرية، وللمطالبة برحيل حسني مبارك عن الحكم، غير أن شائعة سرت في الميدان، مفادها أن المنازل في أحياء العاصمة القاهرة تتعرض لهجوم منظم من عصابات مسلحة، مستغلة غياب الشرطة للقيام بأعمال السلب والنهب.
يقول أسامة: "كنت حينها مع ثلاثة من الأصدقاء، على بعد أمتار من مقر وزارة الداخلية القريب من ميدان التحرير، وانتابنا جميعاً القلق على أهالينا بسبب تلك الشائعة، والتي تزامنت مع الإعلان عن تمديد حظر التجول ليبدأ من الرابعة عصراً حتى الثامنة صباحاً. وقتها، اقترحت أن يذهب واحد منا إلى المنطقة التي نسكن فيها، ويطمئن على سلامة الأسر الأربع. كنت أشك أن الهدف هو إخلاء الميدان من المتظاهرين".
ويتابع: "تأكدنا بالفعل من عدم وجود عمليات نهب أو سلب في هذا اليوم، ومع ذلك استمرت الإتصالات الهاتفية من الأهل والمقربين تطالبنا بالعودة إلى منازلنا، وترك الميدان بحجة أن المحتجزين الجنائيين تم إطلاق سراحهم من أقسام الشرطة، مستندين في تلك الشائعة إلى ما تروجه وسائل الإعلام المملوكة للحكومة".
ما حدث في هذا اليوم تكرر بصور متشابهة خلال الأيام التالية، فإطلاق الشائعات كان ممنهجاً في الأيام السابقة لتنحي مبارك، والهدف دائماً كان إخلاء ميدان التحرير من المتظاهرين.