انسحبت آليات جيش الاحتلال الإسرائيلي صباح السبت الماضي، من محيط مستشفى كمال عدوان في منطقة مشروع بيت لاهيا في شمال قطاع غزة، لتتكشف تفاصيل مجزرة مروعة بحق النازحين والطواقم الطبية والمرضى الذين كانوا داخله، وحجم الدمار الهائل في ساحة المستشفى وبعض الأقسام، وإلحاق أضرار بالغة بأقسام أخرى.
كان مستشفى كمال عدوان يعمل بشكل محدود قبل الاقتحام الإسرائيلي، نظراً لانعدام كل وسائل تقديم الخدمات الطبية، وتفاقم الوضع مع حصاره لمدة ثلاثة أيام، وقطع التواصل بينه وبين الجهات الطبية في جنوب القطاع. لكن المستشفى توقف عن العمل بشكل كامل بسبب الأضرار التي خلفها اجتياح الجيش الإسرائيلي، الذي قام قبل المغادرة بقتل العشرات واعتقال نحو 90 من النازحين والمرضى.
كانت المسعفة وفاء البسّ أحد أفراد الطواقم الطبية الذين حوصروا لثلاثة أيام داخل قسم العناية المركزة مع عدد من المرضى، الذين قضى اثنان منهم صباح الأحد، بعد أن عاشوا أياماً صعبة من دون علاج أو رعاية خلال فترة حصار ثم اقتحام المستشفى.
في بداية الاقتحام، كان قسم الاستقبال يضم العديد من الأطفال الجرحى، وطلب جيش الاحتلال إخلاءه ضمن مبانٍ أخرى كانت تتعرض لشظايا القذائف المتطايرة. تقول البسّ لـ"العربي الجديد": "فقدنا العديد من المصابين نتيجة المضاعفات الصحية والنزف خلال فترة الحصار قبل اقتحام جنود الاحتلال الإسرائيلي. كان لدينا عدد من الإصابات الخطيرة، واقتحام المستشفى منعنا من تقديم العلاج، ما أفقد كثيرين حياتهم. عندما انسحب جيش الاحتلال صباح السبت، ذهبت مسرعة إلى صيدلية المستشفى من أجل إحضار حقنة لأحد المصابين، فوجدت الصيدلية محترقة بالكامل، وفقدنا كل ما كان فيها من أدوية".
وتضيف: "اعتقل الاحتلال مدير المستشفى أحمد الكحلوت، ونائب مدير التمريض عماد حمدونة، والعديد من أفراد الطاقم الطبي، ولم تستطع الطواقم الطبية إحصاء أعداد الشهداء الذين لقوا حتفهم في أثناء المجزرة، وأقدر أن أعدادهم بالعشرات، وبعضهم لا يزالون تحت الأنقاض والركام، وقد ظهرت أجزاء من أجسادهم أو دمائهم في ساحة المستشفى، ولا يزال عدد من المرضى والجرحى في المستشفى بلا أي علاج، وأتوقع أن تزيد أعداد الشهداء نتيجة ذلك. كانت هناك حالات بتر من بين المصابين، وآخرون لديهم جروح تتطلب تدخلاً عاجلاً، وأغلب هؤلاء استشهدوا بسبب عدم تلقي العلاج، وهناك جثث تحللت بالكامل، ولا نعرف أين يمكننا دفنها".
وتوضح البسّ: "حققوا معنا لفترات طويلة، وكرروا السؤال عن رهائنهم، وكانوا يفصلوننا على حدة، ويسألون عن أسماء الموجودين في المستشفى، وإن كان هناك أنفاق. لم يجدوا أي شيء، لكنهم أطلقوا علينا الكلاب البوليسية، وكنا نصرخ لأن الكلاب مرعبة، ولم يسمح لنا على مدار ثلاثة أيام بإنقاذ حياة المرضى والجرحى، رغم أن بعضهم كانوا بحاجة إلى تدخل عاجل، وكان يمكن إنقاذهم، وعندما أخرجوا الرجال إلى الساحة، طلبوا منهم إخراج الأسلحة، لكنهم لم يجدوا شيئاً، فالجميع مدنيون".
كان أحمد حمدان (35 سنة) من بين النازحين إلى مستشفى كمال عدوان، وقد قرر البقاء مع شقيقه وجدي (40 سنة) وصديقه مرسي لأنهما مصابان، ويقول إن صديق شقيقه أحد الذين أعدمتهم قوات الاحتلال عندما سارت الجرافات والآليات العسكرية فوق خيام النازحين، وتعرف إليه من وجهه الذي ظهر تحت الرمال والطين الذي أحدثته الجرافات.
يضيف حمدان لـ"العربي الجديد": "ما فعلوه كارثي، وما عاشه أجدادنا في مجازر صبرا وشاتيلا، أو مجازر النكبة، عشناه نحن في مستشفى كمال عدوان. أعدموا الرجال، وقتلوا الأطفال، وساروا فوق رؤوس المرضى. خرجنا إلى الساحة رافعين أيدينا، ولم يجدوا أي شيء معنا، فنحن نازحون، ولا نملك شيئاً، وأغلبنا لم يستطيعوا النزوح إلى الجنوب، لأن لنا أقارب مرضى في المستشفى".
ويروي الشهود أنهم شاهدوا أشلاء جثث تحت الركام الذي خلفته المركبات العسكرية للجيش الإسرائيلي، كان من بينها ذراع أحد المصابين المغطاة بجبيرة، وكان من بينهم مصابون، إذ كان المصابون يخرجون إلى الساحة للبقاء في الخيام حتى يتيحوا مكاناً للمرضى الجدد بسبب قلة الأسرّة المتوافرة. يقول حمدان: "الشهيد صاحب اليد المبتورة كان قد تلقى علاجاً من دون تخدير، وكان يصرخ من شدة الألم، لكن الاحتلال قتله بالدهس حياً، ثم قام بتجريف جثمانه".
وحطمت الجرافات البوابة الأمامية، ودمّرت مباني المستشفى الجنوبية، بما فيها الصيدلية من أجل إدخال مركباته العسكرية، التي جرفت ساحة المستشفى الأمامية التي كانت ممتلئة بخيام النازحين حتى تقيم نقطة تحقيق. تقول المسنة أم طلال عساف (60 سنة) لـ"العربي الجديد": "شاهدت بعيني سرقة جنود الاحتلال عدداً من الجثث. لكوني مقعدة، فقد أبقوني في مكاني، لكنهم منعوا تزويدي بالطعام والماء، وأجبروني أشاهد تعذيبهم للمرضى، وتجريفهم للجثامين، وقد اعتقلوا كثيرين، من بينهم ابن شقيقي محمد، والكثير من أفراد عائلتي مفقودون، والناس تبحث عن ذويها بين الأنقاض".
وبعد التحقيقات الأولية وجمع الشهادات وتقييم الحالة الطبية، دعت وزيرة الصحة الفلسطينية، مي الكيلة، مساء السبت، إلى تحقيق دولي في ما جرى بمستشفى كمال عدوان، مؤكدة وجود أدلة على دفن جيش الاحتلال مواطنين أحياء، بعضهم من النازحين، وآخرون من المرضى، وأن الوزارة ستُعدّ ملفاً متكاملاً لتقديمه إلى المحاكم الدولية.
وقالت الكيلة في بيان صحافي: "المعلومات والشهادات التي جمعناها من المواطنين والطواقم الطبية والإعلامية تؤكد دفن مواطنين أحياء في ساحة المستشفى، وأن بعض الشهداء جرى التحقيق معهم قبل قتلهم، فضلاً عن الدمار الكبير الذي خلفه الاحتلال في مباني المستشفى".
بدورها، طالبت وزارة الخارجية الفلسطينية، السبت، في بيان، "بتحقيق دولي فوري في الأنباء التي تتحدث عن ارتكاب الاحتلال لجرائم بشعة ومروعة في ساحة مستشفى كمال عدوان".
وقال المدير العام لوزارة الصحة في قطاع غزة، منير البرش، إن "الاحتلال الإسرائيلي ارتكب كارثة إنسانية، وحوّل مستشفى كمال عدوان إلى ثكنة عسكرية، وتعمد إذلال الكوادر الطبية والجرحى". وقال القيادي في حركة "حماس" أسامة حمدان، إن "الجرافات الإسرائيلية دفنت عشرات النازحين والمرضى والجرحى أحياءً داخل المستشفى وفي محيطه".
وعبّر المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، عن قلقه إزاء الهجوم على مستشفى كمال عدوان بعد عدة أيام من حصاره، وقال إنه يجب حماية المنشأة، وأضاف: "تدعو منظمة الصحة العالمية بشكل عاجل إلى وقف فوري لإطلاق النار، وإتاحة وصول المساعدات الإنسانية بشكل مستدام إلى المرافق الصحية في جميع أنحاء قطاع غزة".
وأُنشئ مستشفى كمال عدوان في عام 2002، نظراً لحاجة شماليّ قطاع غزة لمستشفى متخصص للتكفل بالإصابات الناجمة عن اندلاع الانتفاضة الثانية، وكان في البداية عبارة عن عيادة خاصة بمنطقة مشروع بيت لاهيا، ثم طُوِّر وأُضيفَت مبانٍ جديدة إليه، ليصبح مجمعاً طبياً متكاملاً. وحسب آخر إحصائية رسمية، كان المستشفى يضم 334 فرداً من الكادر الطبي، ما بين أطباء وصيادلة وممرضين وفنيين وإداريين، وكان يغطي بلدة ومخيم جباليا، وبلدة بيت لاهيا، ومنطقة مشروع بيت لاهيا، وبلدة بيت حانون، وكلها مناطق مكتظة بالسكان.
وفي 2014، جهزت مؤسسة "ميرسي" الإندونيسية مبنى المستشفى الإندونيسي بمبيت للمرضى وغرف للعمليات الكبرى، وبات يغطي حاجة الكثير من سكان شماليّ قطاع غزة، لكن مجمع كمال عدوان الطبي ظل يقدم خدماته لسكان المنطقة، وزاد الضغط عليه خلال العدوان الإسرائيلي، على الرغم من الإمكانات المحدودة المتاحة، والأجهزة القديمة التي توجد فيه، وبات الأهم في المنطقة بعد تكرار استهداف واقتحام الاحتلال للمستشفى الإندونيسي، الذي توقف عن تقديم الخدمات الطبية في 16 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لتنقل الطواقم الطبية الحالات الخطيرة والمصابين في داخله إلى مستشفى كمال عدوان، إذ كان مجمع الشفاء الطبي أيضاً خارج الخدمة بعد اقتحام قوات الاحتلال له.