ينعطف النيل في مسيرته شمالاً مرتين. الأولى نواحي شندي (193 كلم شمال الخرطوم) ليصبح شرق النيل جنوباً، جغرافياً، وغربه شمالاً، الأمر الذي أربك إدراكنا لأول دروس الجغرافيا، والثانية في قلب الصحراء الكبرى عند مدينة أبوحمد (538 شمال الخرطوم)، حيث يتغير خط السير من الشمال إلى الغرب، فالجنوب الغربي، قبل أن يعود إلى اتجاهه شمالاً.
في كلا الانعطافتين يتعرض المجرى لتهديد زحف الرمال، لكن التهديد يتزايد عندما يقع تحت رحمة صحراء "العتمور" المعروفة بكثافة وسرعة حركة رمالها، ثم صحراء "بيوضة"، عندها ينكشف المجرى نتيجة انحسار الغطاء النباتي والغابي من جراء الرعي والاحتطاب الجائر، فتندفن الضفاف، ويضيق المجرى، وبالتالي تتضرر القرى والجزر والمزارع، كما تموت الأسماك، بسبب تسرب المياه الملوثة بمخلفات التعدين السامة.
هكذا تتشارك العوامل الطبيعية مع البشرية في خنق النيل. أما ما يحدث في الخرطوم عند "مقرن النيلين"، فهو من فعل البشر المشوب بفساد وأطماع استثمارية لا تراعي الأثر البيئي.
في سبتمبر/ أيلول 2005، بدأ الحديث عن مشروع عقاري على النيل الأبيض قبيل اقترانه بالأزرق بتكلفة 4 مليارات دولار، يضم منطقة تجارية على مساحة 160 فداناً، ومجمعاً سكنياً على 1420 فداناً، وملعباً للغولف بسعة 18 حفرة في منطقة غابة السنط المحمية بموجب القانون منذ 1925.
على الفور، ظهرت حملة إعلامية بمشاركة برلمانيين من كتلة الحركة الشعبية وقتها، وجماعة مؤثرة من المفكرين والمثقفين والإعلاميين والمهتمين بالشأن البيئي، وتنظيمات مدنية على رأسها الجمعية السودانية لحماية البيئة. نجحت الحملة في تعطيل المشروع وانسحاب المستثمرين.
بعد 17 عاماً، يعود المستثمر ذاته لاستكمال ما بدأه من عمليات تشييد للحواجز الإسمنتية، تمهيداً لإقامة المشروع الذي سيشكل عبئاً على مناطق عديدة في شمالي العاصمة، بسبب الردم وتضييق مجرى النهر، الأمر الذي يرى فيه البعض جريمة جنائية.
غابة السنط من أعرق وأكبر المحميات الطبيعية في ولاية الخرطوم، وانضمت في عام 1939 إلى منظومة المحميات الطبيعية لأنها نطاق حيوي يشكل مأوى للطيور المستوطنة والمهاجرة، علاوة على أهميتها العلمية، وأنشئت بها مدرسة خبراء الغابات في 1946، وفيها يجد طلاب العلوم والباحثون في مجالات البيئة والتنوع الإحيائي ضالتهم، إلى جانب تشكيل الغابة حلقة من حلقات التوازن الطبيعي، عبر امتصاص الغازات السامة التي تنفثها المصانع والسيارات.
عادت حملة التصدي للمشروع إلى الظهور مجدداً، فهل تنجح، أم أن الفأس قد وقعت في الرأس؟
(متخصص في شؤون البيئة)