خدمة ألمانية لإسرائيل... خلط بين معاداة السامية والصهيونية في قانون الجنسية

28 أكتوبر 2023
تظاهرة داعمة للفلسطينيين في ألمانيا (هشام الشريف/ Getty)
+ الخط -

منذ عام 2019، تسعى ألمانيا إلى حصار الأنشطة المتعلقة بفلسطين. ووصل الأمر في مرات عدة إلى حد تدخل الشرطة الألمانية لمنع رفع العلم الفلسطيني. وجاءت الحرب على قطاع غزة لتضع برلين في مأزق تطبيق حظر رفع العلم، بل ومنع فعاليات تضامنية مع الفلسطينيين، بحسب ناشطين في مجال حقوق الإنسان في ألمانيا، قبل أن تطيح مجزرة المستشفى المعمداني في غزة بكل محاولات تقييد الأنشطة المتضامنة مع الفلسطينيين.
وعمدت ألمانيا إلى استهداف الناشطين، ومن بينهم أعضاء ومؤيدو حركة "بي دي أس" (حركة مناصرة لحقوق للفلسطينيين تدعو إلى مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض عقوبات عليها)، الذين أعربوا عن تضامنهم مع ضحايا العدوان الإسرائيلي في فلسطين. ويصف ناشطون فلسطينيون وآخرون ما يجري بأنه "توجه استبدادي" لتكميم الأفواه في مقابل كم كبير من الدعم الرسمي الألماني لسلطات الاحتلال الإسرائيلي.
وكانت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر قد أعلنت أن قانوناً قيد الدراسة في البرلمان الألماني سيعني أن من ارتكبوا أفعالاً معادية للسامية لن يتمكنوا أبداً من الحصول على الجنسية الألمانية. وقالت في بيان صدر بعد اجتماعها مع السفير الإسرائيلي لدى ألمانيا رون بروسور: "مسودتنا لقانون الجنسية الجديد الذي سنبحثه الآن في البوندستاغ تتضمن استبعاداً واضحاً لمعادي السامية". أضافت أن السلطات الألمانية "شديدة اليقظة" في ما يخص مؤيدي حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في ألمانيا، وأي شخص يفعل ذلك "سيحاكم بقوة القانون الكاملة".
ومع أن فيزر حصرت الأمر باستهداف "مؤيدي حركة حماس في ألمانيا"، إلا أن المحامي والحقوقي الألماني من أصل فلسطيني أحمد عابد يقول لـ"العربي الجديد"، إن الأمر "خطير جداً على مستوى الحقوق الدستورية للمواطنين وحرية تعبيرهم عن رأيهم". على طاولة عابد عشرات القضايا التي تخص أشخاصاً تلاحقهم السلطات الألمانية حتى قبل القانون الجديد. بعض تلك القضايا تتضمن اتهامات بمعاداة السامية، فيما غرّم البعض لرفع العلم الفلسطيني في ذكرى النكبة. ووصلت قضايا الغرامة إلى المحاكم بسبب رفض البعض دفعها. 
ويقول عابد إن استهداف الأنشطة التي لها صلة بفلسطين "تنتهك الحقوق الأساسية، علماً أن المحكمة الألمانية العليا رأت أن أنشطة حركة المقاطعة لا تعد معادية للسامية".
قضية استهداف المتعاطفين مع الفلسطينيين، وإن لم تكن جديدة، إلا أنها باتت تتخذ منحى خطيراً على مستوى أوروبا منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول بعد عملية طوفان الأقصى. على سبيل المثال، وصل الأمر في منتصف أكتوبر إلى حد استهداف لاعب كرة القدم الدولي الهولندي أنور الغازي من قبل نادي ماينتس الألماني بسبب رسالة على وسائل التواصل الاجتماعي عبر فيها عن تضامنه مع الفلسطينيين. واعتبر النادي أن ذلك "غير مقبول" ورسالته "لا تتماشى مع قيم النادي". في السياق نفسه، يواجه اللاعب المغربي نصير مزرعاوي اتهامات مماثلة من فريق "بايرن ميونخ" بعدما أعرب عن دعمه للقضية الفلسطينية في 15 أكتوبر. 

يأتي ذلك كله تزامناً مع ما يشبه حملة أوروبية موسعة لاستهداف بعض الشخصيات الرياضية البارزة كرسالة تحذير لهم بألا يعربوا عن تعاطفهم مع الشعب الفلسطيني على وسائل التواصل الاجتماعي. وذهب وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان إلى حد اتهام كريم بنزيمة بأن له "صلة سيئة السمعة" بجماعة الإخوان المسلمين، بعدما نشر على موقع "تويتر": "كل صلواتي لسكان غزة، الذين يسقطون ضحايا مرة أخرى لهذه القصف غير العادل الذي لا يستثني النساء ولا الأطفال".
واقترحت السيناتورة فاليري بوير من حزب الجمهوريين سحب الكرة الذهبية من كريم بنزيمة، أو حتى جنسيته الفرنسية. واعتبرت نادين مورانو، عضوة البرلمان الأوروبي، أن لاعب اتحاد جدة السعودي يتصرف كـ"فرنسي لديه أوراق"، في إشارة إلى عدم انتماء بنزيمة لقيم الجمهورية. 
أما لاعب فريق "باريس سان جيرمان" الفرنسي من أصل كاميروني كيليان مبابي، فقد تعرض لانتقادات على وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام لعدم رده على "الأعمال الإرهابية لحماس". كما عاقبت اللجنة التأديبية التابعة لرابطة الدوري الفرنسي لاعب نادي نيس والمنتخب الجزائري لكرة القدم يوسف عطال بالإيقاف 7 مباريات بسبب منشور داعم لفلسطين ضد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والتي تدور رحاها حتى اللحظة.
أمثلة هي مجرد غيض من فيض. ويقول صحافي فلسطيني ألماني فضل عدم الكشف عم اسمه بسبب موقعه الوظيفي، إن ما يحدث في ألمانيا هو "انتهاك للحقوق الدستورية للمواطنين"، علماً أنه يعاني مع المؤسسة التي يعمل فيها بسبب التضييق والرقابة بحقه وبحق زملائه العرب.  
ويشير الواقع إلى أن البلاد ذاهبة إلى تشدد غير مسبوق. إذ وصل الأمر بالسلطات إلى حد بعث رسائل توجيه إلى مختلف المدارس والجامعات حول كيفية التعامل مع من يظهرون تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني أو يعلنون أنهم ضد قصف غزة. ويتحدث البعض لـ"العربي الجديد"، عن سرعة تحرك السلطات على المستويين الإداري والأمني لاستهداف التجمعات السكانية "التي يشك أن تكون أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين"، وتهديدها والتضييق عليها، وذلك قبل حديث وزيرة الداخلية عن القانون.  

ألمانيا (يينغ تانع/ Getty)
رفض للمجازر بحق الأطفال في ألمانيا (يينغ تانع/ Getty)

وتقول مصادر من داخل أروقة مؤسسات حكومية في برلين لـ"العربي الجديد"، إنه سرت حالة أشبه بالهستيريا تتجاوز ما جرى في تل أبيب منذ 7 أكتوبر، إذ استنفرت المؤسسات في حملة ترهيب غير مسبوقة مع توجيهات صارمة لكل الأجهزة التنفيذية تحت بند مكافحة الإرهاب، للتضييق حتى على وسائل التواصل الاجتماعي.
وتقول الناشطة الحقوقية الألمانية المؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني في برلين أنغريد ماينهاير إن الأمر يتعلق بـ"محاولات ترهيب وإسكات للنشطاء"، لافتة إلى أن بعض التصرفات التي انطلقت منذ يوم الأحد 8 أكتوبر تنتهك الحقوق الدستورية للمواطنين، بغض النظر عن أصلهم العرقي، وترى في حديثها لـ"العربي الجديد"، أن "استنفار الشرطة وجهاز الاستخبارات هدف إلى إظهار النشاط المتعاطف مع الفلسطينيين بأنه دعم للإرهاب وحركة حماس"، مشيرة إلى أن "الرسالة غير محصورة بالفلسطينيين بل بجميع الجنسيات وكل من يهتم بالقضية الفلسطينية".
ومنذ أواخر عام 2022، كان مؤتمر وزراء داخلية الولايات الألمانية (آي إم كيه) قد نشر تقريراً يركز على الإجراءات التي تهدف إلى "الوقاية والتدخل ضد معاداة السامية المرتبطة بإسرائيل"، وبما يدفع لمزيد من حملات القمع ضد التضامن مع فلسطين، ويناقش أيضاً التحرك نحو تجريم هذا النوع من الخطاب والنشاط. ويؤكد ناشطون لـ"العربي الجديد"، أن الإجراءات المتشددة بحق الجمعيات والمؤسسات المتضامنة هي "خلط متعمد بين المواقف النقدية للاحتلال الإسرائيلي وللأراضي التي تعترف برلين بأنها محتلة بموجب قرارات الأمم المتحدة كالضفة الغربية وغزة، ورفض الصهيونية، وبين معاداة السامية". ويخلق الأمر، بحسب عابد، نقاشاً محتدماً وسجالات حقوقية وقانونية.


إلى ذلك، يقول صحافي فلسطيني مقيم في برلين منذ أكثر من 25 عاماً، إنه تم "إعداد أرضية للتحركات خلال الأسابيع الثلاثة الماضية للجم أي ظهور مؤيد للفلسطينيين في مجتمعات الأقليات وبين الألمان"، ويؤكد لـ"العربي الجديد"، وجود  توجيهات للمدارس لأجل "إظهار وجهة نظر أكثر إيجابية حيال إسرائيل في الفصول الدراسية". وصنف مؤتمر وزراء داخلية الولايات الألمانية تقرير منظمة العفو الدولية الصادر في خريف 2022 حول الفصل العنصري الإسرائيلي بأنه "معاد للسامية"، مقترحاً حظر الخرائط التي "تشكك في حق إسرائيل في الوجود".
ويجد الكثير من الشباب الفلسطيني، بمن فيهم أولئك الذين ولدوا وكبروا في ألمانيا، أنفسهم معرضين للملاحقة إذا ما ارتدوا الكوفية الفلسطينية أو وضعوا خريطة فلسطين التاريخية. وفي السياق نفسه، يبدو أن المفوض المختص بشؤون الحياة اليهودية في ألمانيا ومكافحة معاداة السامية، والذي تنتشر مكاتبه في مختلف الأقاليم في البلاد، وجل موظفيه من الجالية اليهودية الألمانية، استطاع تمرير رؤية الموظفين لأجل "تخفيف ظهور صورة التعاطف مع فلسطين والتركيز على إظهار تعاطف مع إسرائيل".
ويشرح مصدر مطلع على بعض الوثائق من برلين الخطوات التي اعتبرها "ترهيبية"، قائلاً إنه منذ الأحد 8 أكتوبر، "كانت شرطة برلين توجه المؤسسات التعليمية لحظر رفع العلم الفلسطيني أو ارتداء الكوفية. حتى أنه يمنع على الطالب القول إنه فلسطيني، وهو ما يبدو اتهاماً ضمنياً بأنك معاد للسامية". ووصل الأمر بمكتب التعليم الإقليمي ببرلين إلى "ملاحقة أطفال تيك توك الفلسطينيين والمتضامنين معهم من جنسيات أخرى، إذا ما شاركوا أو نشروا شيئاً يتعلق بالقصف على غزة وأظهروا تعاطفاً مع المدنيين".

كما أجبر الصغار على الجلوس والاستماع إلى الرواية اليهودية ومعاناة اليهود فحسب. ومع أن قرارات مؤتمر وزراء داخلية الولايات الألمانية غير ملزمة، إلا أنه يجري التذرع بها لأجل التضييق على أي فعل تضامني مع الضحايا في فلسطين.
وعلى مستوى التحرك في الشارع، يرى ناشطون أن هناك تضييقاً "منذ أشهر يحظر منح رخص لإقامة تظاهرة لها علاقة بفلسطين. فحين تحرك الناس لطلب رخصة تظاهر، وأمام هول المذابح في غزة، حشدت الشرطة في برلين عناصرها. لا تستطيع تطبيق أوامر حظر رفع علم فلسطين، لكنها تتصرف بخبث واضح وبتوجيه من اللوبيات". يضيف هؤلاء أن "ألمانيا تمنح رخصة للتظاهر، وتظن أن العدد لن يتجاوز 200 شخص، ثم تصدم، إذ إن أولى التظاهرات المتضامنة مع غزة تجاوزت الـ2500 شخص. باتت تستخدم تكتيكات مثل تعطيل الشوارع وتعطيل المواصلات العامة المؤدية إلى نقاط الالتقاء، مثل بوابة برلين براندنبورغ، لتقييد وصول المشاركين". تضيف المصادر أنه "بمجرد أن يرفع أحدهم ولو ورقة صغيرة مكتوب عليها شيء لا يروق لواضعي كاتالوغ ما يسمى معاداة السامية، يجري حل التظاهرة على الفور، أي يبقى سيف معاداة السامية مسلطاً لوقف التظاهرة ولو بعد 10 دقائق من التجمع لأجلها".
حتى أن وسائل إعلامية حكومية تأسف لأن "تظاهرة تأييد لإسرائيل لم يشارك فيها أكثر من 200 شخص، بينما الفلسطينيون الإرهابيون يحشدون أكثر من 2500"، وهو ما أثار جدلاً وانتقادات حتى من الألمان لطريقة عمل هيئة بث عام وانحيازها لإسرائيل. 
في كل الأحوال، تعج المحاكم الألمانية بالشكاوى، التي تجد نفسها في نهاية المطاف ترفض بعض التهم المتعلقة بمعاداة السامية استناداً إلى نصوص ومواد الدستور الألماني التي تكفل حرية الرأي والتعبير، وهو ما يشدد عليه عابد، طارحاً قضية الصحافية مرام سالم، من محطة "ديوتشه فيله" الألمانية، التي تولى قضيتها بعد فصلها تعسفياً بحجة أن رأيها كان معادياً للسامية. ويؤكد صحافي فلسطيني مقيم في ألمانيا أن منع الأشخاص من الحصول على الجنسية "لن يكون إلا زوبعة في فنجان، وهو مقترح يهدف إلى التخويف لا أكثر، إذ يستحيل تطبيق ذلك لتعارضه مع الدستور، إلا إذا أرادت ألمانيا شطب الحريات من دستورها واستبدالها بفقرة معاداة السامية".

المساهمون