يدأب باحثون عن النفايات في العراق على حرق مكبات توجد في الشوارع بحثاً عن قطع نحاس وحديد يمكن بيعها، لكنهم يتركون النيران مشتعلة في هذه المكبات الذي قد تتجاوز مساحة بعضها 10 كيلومترات في بعض المناطق. أيضاً، قد يحرق السكان نفسهم مكبات لمحاولة التخلص من الحشرات والبعوض والروائح التي تجلبها كمياتها المكدسة، في عملية قد تتسبب بأضرار ليست أقل خطورة من تراكم النفايات، خاصة في ظل انعدام وجود البيئة الصحية، والاهتمام الرسمي بتوفير مساحات خضراء، وبنى تحتية أبرزها شبكات الصرف الصحي.
باتت أطراف المدن والأحياء الفقيرة العشوائية اليوم مواقع خطرة لانتشار الأمراض، ويزيد مآسيها الدخان التي ينتشر في أجوائها من حرق النفايات التي يعتبرها السكان "واقع حال".
وهكذا يدفع سكان في مناطق مثل الشعلة والحسينية وأبو غريب ضواحي بغداد، وأخرى مثل الفلوجة والتاجي والمدائن وبعقوبة، التي تحرق فيها النفايات في شكل مستمر، بمعدل مرتين أو ثلاث مرات أسبوعياً، ثمن هذا التصرف، ثم يطلبون مساعدة جهاز الدفاع المدني في إخمادها بعد تصاعد الدخان الكثيف، وانتشار الروائح القوية والكريهة التي تدخل إلى منازلهم.
حل الحرق
يقول أمير خلف، الذي يعتبر من الطبقة المثقفة، كونه شاعراً له ديوان مطبوع، ويحمل شهادة جامعية في الأدب الإنكليزي، لكن اضطر بسبب ظروف الفقر إلى السكن في عشوائيات تخلو من بنى تحتية صحية أو بيئية، لـ"العربي الجديد": أسكن مع زوجتي وولديّ وابنتي الذين يدرسون في المرحلة الثانوية في مسكن أشبه بكوخ، وأعلم مثل جميع سكان حينا العشوائي أن حرق النفايات يضرّ بصحتنا والبيئة، لكن لا حل آخر لدينا. ونحن نستنشق دخان النفايات المحترقة، وهذا أمر طبيعي، ويعاني كثيرون منا من أمراض بسبب استنشاقه".
واللافت أن حرق النفايات لا يقتصر على مناطق السكن العشوائي، إذ بنيت أحياء سكنية كثيرة في شكل قانوني على أراضٍ سكنية طوال أكثر من عشرين عاماً، من دون أن تصلها الخدمات البلدية حتى الآن.
وفي شمال بغداد، يجمّع جيران النفايات في موقع يبعد نحو مائة متر عن مساكنهم، ويحرقونها مساءً يومياً. ويقول أحدهم ويدعى سعد رسول لـ"العربي الجديد": "أشرف مع أحد جيراني على عمليات الحرق التي اخترنا مواقع عدة لها وفقاً لحركة الرياح كي نبعد الدخان عن المساكن".
وما يفعله رسول وجيرانه يكرره سكان في أحياء قريبة، ما يجعل دخان النفايات المحروقة تغطي سماء الحي المجاور. ويقول رسول، مضيفاً: "اضطر جميع سكان الأحياء الخالية من الخدمات إلى السكن في بيوت بدائية صغيرة، لا تصلح لعيش أي شخص. وهم يدفعون ثمناً صحياً غالياً، لأن الأمراض الناجمة عن حرق النفايات تنتشر بينهم وتشمل أعماراً مختلفة، إذ يعاني كثيرون من أمراض في الجهاز التنفسي، ولا يستبعد تسبب كميات الدخان بأمراض سرطان أصابت بعض سكان مناطقنا".
ويقول الخبير البيئي قاسم الزوبعي لـ"العربي الجديد": "تحرق مواد فائقة السمّية إضافة إلى عبوات بلاستيكية متعددة الاستخدامات فتنتشر أبخرتها التي يستنشقها الناس. وكلما زاد هذا الاستنشاق زادت مخاطر إصاباتهم بأمراض خطرة منها السرطان"، علماً أن منظمة الصحة العالمية حددت في تقرير أصدرته في فبراير/ شباط الماضي عدد المصابين بالسرطان في العراق بـ 35 ألفاً نسبة 57 في المائة منهم من النساء.
وتفيد تقارير رسمية بأن كمية النفايات في العراق ارتفعت بمختلف أنواعها، علماً أن الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط ذكر في تقرير حديث أن كمية النفايات الاعتيادية التي رفعت عام 2020 بلغت 11.8 مليون طن، مقابل 10.6 مليون طن عام 2019. أما معدل كمية النفايات الناتجة من الفرد الواحد فمقدارها 1.5 كيلوغرام يومياً.
ويقول الطبيب معتز الدوري، المتخصص في أمراض الغدد الصم، لـ"العربي الجديد": "ما يفاقم تعرض السكان الذين يستنشقون الدخان الناتج عن حرق النفايات، شبه انعدام وجود مساحات خضراء في المناطق السكنية".
الحكومة المتهمة
ويتهم الدوري الجهات الرسمية بـ"الإهمال"، مشدداً على أن "نسبة المواقع الخضراء والمسطحات المائية داخل المدن يجب أن تتجاوز نصف المساحة المبنية، مع توفير بنى تحتية صحية ملائمة يعاني العراق من نقص كبير فيها، وهو ما تتحمل الجهات الحكومية مسؤوليته على غرار نتائجه السلبية".
ويتهم عراقيون المسؤولين في بلدهم بالتسبب في تكدس النفايات وعدم استغلالها لتحقيق منافع، خاصة في مشاريع بيئية وخدمية هم في حاجة ماسة إليها تشمل عمليات التدوير وإعادة إنتاج جزء منها في صناعات مختلفة، خصوصاً مع نجاح تجارب توليد الكهرباء التي يعاني العراق من نقص كبير فيها منذ نحو عشرين عاماً، وهو ما لم تعالجه الحكومات المتعاقبة رغم أنها أنفقت مبالغ طائلة لتوفير الكهرباء في شكل مستمر.
ويقول عز الدين النعيمي، وهو مستثمر عراقي سبق أن قدم مع مجموعة من شركائه المستثمرين مشروعاً لاستغلال النفايات الورقية والبلاستيكية، لـ"العربي الجديد": "اقترحت شركات استثمار كثيرة مشاريع تقضي على النفايات، وتوفر في الوقت ذاته بدائل محلية. وقد أطلعت على بعض المشاريع التي تجعل من مكبات نفايات مواقع بيئية سياحية تضم متنزهات ونوادٍ ومواقع ترفيه، بعد التخلص من هذه النفايات ونقلها إلى مناطق صحراوية بعيدة لمعالجتها بعيداً من المدن".
ويؤكد أن "هذه المشاريع تواجه دائماً عراقيل عدة كونها تتضارب مع مصالح جهات أخرى، لكن الأضرار البيئية والصحية كبيرة من الحرق، ويدفع ثمنها المواطن وحده".
وفي مارس/ آذار الماضي، أعلنت وزارة البيئة العراقية أنها في صدد الانتهاء من إعداد مشروع قانون خاص بإدارة النفايات، في محاولة لمعالجة التلكؤ الحاصل منذ ان احتل الأميركيون العراق عام 2003 في مجال الطمر الصحي، والذي تسبب بحدوث مشاكل بيئية. وقال المكلف بإدارة وزارة البيئة جاسم الفلاحي إن "كل أماكن الطمر الصحي وتجميع النفايات لم تحصل على موافقة بيئية، وهي غير ملائمة بيئياً وصحياً واجتماعياً".