في شمال قطاع غزة، سلقت نوال أبو سيف (34 عاماً) عظام دواجن بعد تنشيفها مستعينة بأشعة الشمس، وأضافت إليها مرقة الدجاج التي وجدتها على أنقاض أحد المنازل المدمرة وسط مخيم جباليا. وضعت الخبز الناشف فيها، علماً أنها لا تعرف إن كان صالحاً للأكل. لكن على الأقل لم يظهر عليه العفن، لأن الجو بارد.
أعدّت أبو سيف مرقة دجاج مع الخبز كما تعد أكلة الفتة من دون أرز أو لحوم كما توضح، وهو طبق مشهور في القطاع. على الرغم من المأساة، إلا أنها استطاعت إعداد طبق يُعَدّ صعباً في الظروف التي يعيشها شمال القطاع. إلا أن الجميع، أي عدد أفراد عائلتها، بالإضافة إلى نازحين آخرين، حصلوا على القليل من الطعام.
أبو سيف من بلدة بيت لاهيا تعمل مزارعة مع زوجها وأسرته في إحدى الأراضي الزراعية التي دمرها الاحتلال الإسرائيلي بالكامل مع المنزل. وعندما نزحت في 14 من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كان في حوزتها خضار ونباتات عِطرية، إلا أنها نفدت. كانت ابو سيف تزن 80 كيلوغراماً واليوم تزن 58 كيلوغراماً، ما يعني أنها خسرت 22 كيلوغراماً. زوجها أيضاً خسر 23 كيلوغراماً وصار يزن 67 بعدما كان يزن 90 كيلوغراماً.
تقول لـ "العربي الجديد": "بعض الناس يتناولون دواجن نافقة عثروا عليها في منازل تعرضت للهدم. إحدى الأمهات طهتها من دون أن تخبر أطفالها داخل إحدى مدارس بلدة بيت لاهيا. ظلت تبكي خلال إعداد الطعام، فيسألها أطفالها عن السبب فتجيب بأنه البصل، علماً أنها لم تضعه. نزحت هذه الأم معي وقد مشينا إلى حيّ الشيخ رضوان بحثاً عن مأوى آخر بعد قصف المدارس في شمال قطاع غزة".
البحث بين أنقاض المنازل عن طعام
حاصر الاحتلال الإسرائيلي جميع المدن الغزية خلال الأيام الأخيرة، بما فيها مدينة رفح التي يعجز أهلها عن الوصول إلى مدينة خانيونس. ويتوغل الاحتلال في شمال خانيونس وشرقها، ويفصل حاجز الموت الشرقي وآليات الاحتلال مدينة غزة وشمال قطاع غزة عن كل مقومات الحياة.
وعمد البعض إلى البحث بين الأنقاض في شمال القطاع وحتى مدينة غزة عن طعام على أمل العثور على معلبات أو غير ذلك. عثر أحمد السايس (43 عاماً) على بعض المعلبات في أحد المنازل، علماً أنه كان يشم رائحة الجثث التي لا تزال تحت الأنقاض. عثر على معلبات فول وحمص وبازيلاء، ولم ينظر إلى تاريخ الانتهاء بالمطلق، وعاد الى مربع يقيم فيه بالقرب من غرب منطقة الترنس في مخيم جباليا، وتناول الطعام برفقة 10 أفراد من الرجال الذين بقوا في المنطقة، واستطاعت أسرهم النزوح خلال فترة الهدنة. أراد الرجال البقاء في منازلهم لحراستها وخشية أن تحتل إسرائيل المخيم.
أصيب 8 رجال من الذين كانوا يجلسون بالقرب من منازلهم، كما يقول السايس، جراء تطاير شظايا الصواريخ. لكن إصابتهم كانت متوسطة، وعادوا إلى المساعدة غير مبالين. ويؤكد أن رحلة البحث عن خبز أصبحت مستحيلة، بالإضافة إلى إيجاد حطب. جمع البعض أغصان الأشجار المكسرة نتيجة القصف الإسرائيلي، وكانوا يضعونها في الشمس حتى تجف.
يقول السايس لـ "العربي الجديد": "يصطاد الناس الحمام الطائر أو العصافير لأكلها. اصطدت حمامتين، ونجح أصدقائي في الصيد. تناولتهما بعدما نزعت ريشهما ونظفتهما بالقليل من الماء الساخن. لم أتناول اللحم منذ أيام، وكنت أشعر بالإنهاك". ويشير إلى أن بعض الناس تناولوا لحم الحمير في مخيم جباليا ومنطقة بيت لاهيا. وقابل رجلاً تناول لحم الحمار، وقد أصيب بالإعياء والإسهال الشديد، وقابل طبيباً من النازحين ليمنحه دواءً، فأخبره أنه يعاني أيضاً ويعجز عن تأمين الطعام.
يتغذون على أوراق الأشجار
في منطقة الجلاء، يحاصر الاحتلال الإسرائيلي السكان، وقد وضع صباح أمس حواجز مع تحذير للموجودين في الشوارع من الاقتراب منها لوجود قناص. يقترب البعض من أبواب المنازل، إلا أنهم لا يستطيعون التحرك في الشوارع الفرعية بعد حصار استمر 12 يوماً، كما يقول أحمد رزق (27 عاماً) الذي عمد إلى توفير الإنترنت حتى يتمكن من التواصل مع أسرته التي نزحت إلى مدينة خانيونس.
يوضح رزق أنهم تناولوا أوراق الشجر أخيراً مع الخبز، وكانوا يختارون أوراقاً لا تحتوي على الصمغ الأبيض. ويوضح أن الحاكورة الصغيرة بالقرب من منزله أنبتت أعشاباً خضراء يعتقد أنها حماصيص (نبتة شتوية معمرة تؤكل) فوضعها في الخبز وتناولها برفقة 5 ممن يوجدون في منزله. رفض البعض تناولها بداية، إلا أنهم تشجعوا بعد يومين.
يقول رزق لـ "العربي الجديد": "حين كنت طفلاً، أذكر أنني تناولت أوراق الشجر، لأنني رأيت ذلك في مشهد في أحد الأفلام. ولم أصب بأذى. وحين علمت والدتي بالأمر، ضربتني على يدي حتى لا أكررها. لكنني كررتها أخيراً وأخبرت والدتي، وهي نازحة في إحدى المدارس في مدينة خانيونس بالأمر. لكن هذه المرة، بكت بشدة".
مخاطر صحية
وجدد برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة التحذير من خطر المجاعة والجوع في غزة، قائلاً إن الناس في القطاع يعيشون على وجبة واحدة في اليوم "إذا كانوا محظوظين". وشدد في منشور على منصة "إكس" على ضرورة توسيع نطاق الوصول الآمن ودون عوائق للمساعدات، من أجل الحيلولة دون حدوث مجاعة في غزة، مؤكداً الحاجة إلى السلام أكثر من أي شيء آخر. ويفتك الجوع بأهالي القطاع، فيما بدأت المناطق المحاصرة تعاني المجاعة.
ويحاول طبيب الصحة العامة أحمد أبو مسامح، وهو نازح في مدينة رفح بعد تدمير منزله في حيّ تل الهوا في مدينة غزة، متابعة أحوال الغزيين في المدارس وتفقد صحتهم. في الوقت نفسه، يعجز والكثير من الأطباء المتطوعين عن تقديم المساعدة بسبب ضعف الإمكانات.
اليوم، يتناول الغزيون طعاماً لا يحتوي على سعرات حرارية كافية. في العادة، يفكك الجسم الدهون ثم يلجأ إلى تفكيك أنسجة أخرى بعد استخدام مخزونه من الدهون، مثل العضلات وأنسجة الأعضاء الداخلية، الأمر الذي يهدد الصحة. ويقول أبو مسامح لـ "العربي الجديد": "يمكن أن يؤدي ذلك إلى مشاكل تصل إلى حد الموت، والخطورة أن الجهاز المناعي سينتج مادة السيتوكينات". يشار إلى أن السيتوكينات هي بروتينات صغيرة تعمل على نقل رسائل الخلية للمساعدة في توجيه الاستجابة المناعية للجسم. لكن المستويات المرتفعة من السيتوكينات قد تسبب زيادة الالتهاب في الجسم. ويمكن أن يلحق ذلك الضرر بعدد من وظائف الجسم ويعوق أداءها. في الحالات الخطرة، يمكن لمتلازمة إفراز السيتوكينات التسبب في فشل عضوي والوفاة أيضاً. ويشدد على أن الخطر الأكبر هو على النساء المرضعات للأطفال، موضحاً أن الأطفال حتى سنّ الثانية معرضين لمخاطر في النمو والسلامة العقلية والجسدية في ظل عدم استطاعة أجسام الأمهات إفراز الحليب أو تأمين الحليب المخصص للأطفال في القطاع في الوقت حالياً.
وتشير بيانات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" في آخر بيان، إلى نزوح حوالى 1.9 مليون شخص، أي "أكثر من 85 في المائة من السكان" في مختلف أنحاء قطاع غزة، وقد نزح البعض مرات عدة. أضافت أن العائلات معرضة لمخاطر شديدة في الوقت الذي تُجبَر على الانتقال بشكل متكرر بحثاً عن الأمان، فضلاً عن خطر الأمن الغذائي.
وحتى تاريخ 11 ديسمبر/ كانون الأول، كان ما يقرب من 1.3 مليون نازح يقيمون في 155 منشأة تابعة للأونروا في جميع محافظات قطاع غزة الخمس، بما في ذلك في الشمال وفي مدينة غزة. بالإجمال، هناك ما يقرب من 1.3 مليون شخص نازح يلتجئون الآن في 155 منشأة تابعة للأونروا.
يبلغ متوسط عدد النازحين في ملاجئ الأونروا التي تقع في مناطق الوسط والجنوب 11,480 نازحاً، وهو أكثر من أربعة أضعاف طاقتها الاستيعابية. ووفقاً لوزارة الصحة في غزة، فقد بلغت حصيلة العدوان 18,608 شهداء وأكثر من 50 ألف جريح حتى صباح الأربعاء 13 ديسمبر.