لماذا تُتهم الغربان بأنّها تكثر من التنمر، بل يقال إنّ التنمر صفة من صفاتها الملاصقة لها؟ في الواقع، الغربان على أنواعها طيور ذكية للغاية وتعد من بين أكثر الحيوانات ذكاءً على وجه الأرض. إنّ ذكاءها ومعه دهاؤها عندما يقترنان بحقيقة أنّها أيضاً طيور اجتماعية للغاية يجعلان مجموعة من الغربان تشكل خصماً يؤخذ بعين الاعتبار ضد أيّ طائر آخر أو أيّ حيوان ثديي قد تركز عليه المجموعة مثل ابن آوى أو الثعلب من الحيوانات، أو الباز أو الباشق أو حتى العقاب من الطيور.
فالبنية الاجتماعية للغربان ميزة هامة تجعلها قادرة على التواصل مع بعضها بعضاً والتعاون بوسائل لا يقدر عليها سوى عدد قليل من الحيوانات الأخرى. فالغربان كالإنسان تأكل كلّ شيء بما في ذلك اللحوم، بينما الطيور الجارحة هي حيوانات مفترسة وخطيرة تعيش على اللحوم.
من المؤكد أنّ الغربان تدرك ذلك، وبالتالي فهي حذرة من جميع جوارح الطير، خصوصاً أكبرها، مثل العقاب والباز. فالجوارح تشكل خطراً على بيض وصغار الطيور خلال موسم التعشيش. من جهة أخرى، للغربان صغار ويريد أهلها أن يفعلوا أيّ شيء بل كلّ ما في وسعهم لحماية صغارهم. لذلك، فإنّها تتسلح بحجمها الذي يضاهي حجم الباز والباشق من الطيور الجارحة، وتتنادوى للتحرش بذكاء بالعقاب أو العقيب أو الباز أو الباشق، وتنقض عليه ذهاباً وإياباً، صعوداً ونزولاً سواء كان يحلق في السماء أو يرتاح على شجرة، إلى أن يرحل عن منطقتها التي قدّرتها من مشاهداتي الحقلية على أنّها دائرة قطرها 500 متر ومركز شعاعها هو العش الذي فيه بيض أو صغار الغربان.
وعند الدفاع عن صغارها، تنسق الغربان هجومها على الجارح بعمل جماعي، يقوم كلّ غراب بدوره بالتحرش والهجوم الواحد تلو الآخر. إنّها تعلم أنّ الباز أو الباشق لا يهمه مضايقة من قبل غراب أو غرابين وقد ينقض عليهما ويقتلهما، لكنّ الأمر يختلف عندما تتدخل مجموعة الغربان في طرد القاتل المحتمل، أي الطائر الجارح. وقد ينعكس مسار الهجوم وتنسحب مجموعة الغربان إذا ما تدخل طائر جارح آخر لمساعدة الأول. وفي بعض الأحيان يحصل كرّ وفرّ نتيجة إصرار الغربان، خصوصاً إذا كان لديها صغار بحاجة إلى حماية.
شاهدت حوادث كهذه مرات عدة تعبّر عن مدى إصرار الغربان على دفع القاتل، كابن آوى، الذي هو على الأرض، بعيداً عن منطقتها، مع العلم أنّ عشها قد يكون على قرميد سطح منزل عالٍ ولا يمكن لابن آوى أن يصل إليه. المهم أنّها لا تطيق رؤيته، وعليه ليس من الخطأ وصف الغربان على أنّها مجموعة من المتنمرين، وبما أنّها تتسكع في رفوف كبيرة، فإنّها نادراً ما تتنازل عن فرصة للقتال. فإذا ما حدث أن شاهد أحدها ابن آوى على سبيل المثال في منطقة التفريخ فإنّه ينطلق نحوه محدثاً أصواتاً أو نعيقاً كدعوة للآخرين للانتباه والانضمام إلى المعركة، فتنتفض الحمية لدى أفراد الغربان وتلحق به. لكنّ ابن آوى، على عكس الطيور الجارحة، يخاف ويهرب بعيداً حتى لو كان المهاجم غراباً واحداً.
لا شك أنّ للغربان ثقة بأنفسها وتعرف أنّ الجماعة أقوى من الفرد، ولها ولي أمر ومحكمة خاصة بها يحاكم فيها العربان الخائنة والسارقة التي تسرق أبناء جلدتها، كما تقوم بمراسم الجنازة لمن يموت منها فتتجمع بحزن من حوله لتكريمه. ومن الأمور المتطورة لديها أنّ الفرخ يبقى في العام التالي بالقرب من والديه كي يساعدهما في تربية صغارهما الجدد. في كلّ حال، يمكننا وصف الغربان بأنّ لديها جرأة عالية وتكتيكاً منسقاً لإبعاد العدو القاتل، لكنّ هذه الجرأة ليست فقط مقتصرة على الغربان، فلقد شاهدت في عدة مرات عصافير صغيرة تطير خلف الغراب الذي يسرق صغيرها من العش وتصل إليه وتنقره على ظهره بينما هو هارب ويحمل بمنقاره الفرخ المسروق، لعلّه يترك فرخها أو يتعود ألاّ يعود مرة أخرى ليسرق المزيد.
وهناك أنواع أخرى تتجرأ حتى على الإنسان إذا ما اقترب من أعشاشها فتهاجمه مثل طيور النورس وغيرها من الطيور البحرية. وليس غريباً إذا ما أضفنا إلى الطيور الجريئة عصافير مثل الشحرور وسنّ المنجل وأبو زريق التي تتبنى استراتيجية الغربان، لكن بوتيرة أقل وبصورة ضعيفة نسبياً.
وتقلّ حدة التحرش والتنمر عند الطيور لدى الأنواع التي تبني أعشاشها في تجويفات الجدران الصخرية العالية حيث تتضاءل نسبة التهديد الذي يواجه الصغار، أو تقلّ حدته عند الأنواع التي لديها فرص لتموه أنفسها بريش يشابه جذوع الأشجار كالبوم مثلاً، أو تأوي إلى أماكن مخفية أو مموهة في الأشجار وتجويفات جذوعها.
للأسف، المقولة التي تعلمناها في المدارس وقرأنا عنها في الكتب والتي تقول إنّ في الاتحاد قوة قلما طبقتها الشعوب، على الأقل في شرق البحر المتوسط، لكنّ الغربان تطبقها منذ الأزل وحتى اليوم.
(متخصص في علم الطيور البرية)