يواصل الاحتلال الإسرائيلي فرض المزيد من القيود على الفلسطينيين في محاولة للسيطرة على الأرض، وحرمانهم من أبسط مقومات الحياة، خاصة سكان التجمعات البدوية والقرى والبلدات النائية
أغلق الاحتلال معظم الطرق الواصلة بين بلدة الكرمل شرق يطا ومنطقة التوانة في مسافر يطا جنوباً، ما أرغم الطلبة والمعلمين على قطع مسافة تزيد عن 4 كيلومترات للوصول إلى مدارسهم مقارنة بالمسافة التي كانوا يقطعونها قبل إغلاق الطرق في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وكان التنقل في السابق يتم عبر المركبات العمومية، وكان الناس والطلبة يضطرون إلى النزول عند كل حاجز، والانتقال إلى مركبة أخرى مرتين إلى ثلاث مرات. لكن الجديد هو منع الاحتلال حركة المركبات في تلك المناطق، والعمل على ملاحقتها ومصادرتها، ما دفع مئات الطلبة والمعلمين والموظفين في مدرسة "التوانة المختلطة" إلى التنقل سيراً على الأقدام، والمرور عبر عدة حواجز إسرائيلية، من بينها ما ينصبها مستوطنون يرتدون لباس جيش الاحتلال.
يقطع المعلم الفلسطيني خليل النواجعة (58 سنة) يومياً نحو 5 كيلومترات على حماره، من منزله بمنطقة تجمع الجوّايا في بلدة الكرمل إلى مدرسة التوانة في مسافر يطا، وهو يواجه تحديات لا تحصى بسبب إغلاق جميع الطرق المؤدية إلى المدرسة، كما أن منزله في الكرمل مهدد بالإخلاء والهدم مثل بقية منازل المنطقة المصنّفة "ج"، أي إنها خاضعة للسيطرة الأمنية الإسرائيلية، حيث يسعى الاحتلال للسيطرة على 35 ألف دونم في المنطقة بحجة أنها "منطقة إطلاق نار"، بهدف توسيع نحو 10 بؤر استيطانية جديدة.
يقف النواجعة يومياً على الحواجز الإسرائيلية، وبعضها جواز "طيارة"، أي مفاجئة، ينصبها جيش الاحتلال في أماكن لا يكون فيها بشكل دائم. ويقول لـ"العربي الجديد": "بات يعرفني جنود الحاجز، لكن من باب التنكيل، يقومون بتعطيل سيري، ويصادرون هويتي بهدف تعطيل ذهابي إلى المدرسة. أضطر للابتعاد عن أماكن وجود جيش الاحتلال، والسير في الأودية والطرق البعيدة كي لا أقف على الحاجز".
ومنذ نحو عام، أصبح التنقل عبر الحمار هو خيار النواجعة الوحيد، إذ لم يعد بإمكانه السير لمسافات طويلة في الصباح الباكر، ومع ذلك، لم يتوانَ جنود الاحتلال عن تجريف الطرق الفرعية التي يستخدمها هو والطلاب، في محاولة لمنعهم من الوصول إلى المدرسة. يقول: "يلاحق المستوطنون مركبات المعلمين المركونة في أماكن بعيدة عن مناطق الانتشار الاستيطاني، ويقومون بتخريبها أو ثقب إطاراتها ضمن سياق التخويف والردع".
لكن أخطر ما يحيط بعملية تنقل المعلم خليل النواجعة، هو انتشار البؤر الاستيطانية في جميع مناطق مسافر يطا. ويشير إلى أنه يتحرك يومياً على حماره وحده، متجاوزاً مواقع الوجود الاستيطاني القريبة من مساره. لكن المسافة التي تفصل مستوطنتي "ماعون" و"أفيغال" عن المدرسة تقدر بنحو 500 متر، ما يجعل الاعتداءات على المدرسة أمراً اعتيادياً ومتكرراً عند المستوطنين، وكأنهم يتعاملون مع الأمر وكأنه روتين يومي.
وخلال رحلة الذهاب إلى المدرسة، يواجه المعلم خليل سيلاً من الشتائم، وأشكالاً من الاعتداءات، بما في ذلك الضرب والبصق، إضافة إلى قطع الطريق من قبل المستوطنين. رغم كل ذلك، لم يمنعه شيء من ركوب الحمار يومياً، والتوجه إلى المدرسة، إذ يقضي أكثر من ساعة ونصف الساعة في الذهاب ومثلها في الإياب من المدرسة.
ويشير إلى اعتبارات عديدة تدفعه إلى الاستمرار، أهمها أن "مهنة التعليم رسالة وأمانة لن أتخلى عنها، كما أنها مصدر رزقي الذي أعيل به 12 فرداً، من بينهم أبنائي وأمي وأبي، وإذا امتثلت للمضايقات الإسرائيلية فسأحكم على نفسي وعليهم بالإعدام. لن أترك هذا العمل المقدس، حتى لو كان علي أن أتنقل عبر الحمار طوال عمري".
يواجه النواجعة تحدياً آخر يتمثل في كون مهنته معلماً تضعه في ظروف مادية صعبة نتيجة عدم انتظام الرواتب الشهرية لموظفي القطاع العام الفلسطيني منذ نحو 5 أعوام، ودفعه هذا الواقع إلى فلاحة الأرض بعد انتهاء دوامه. كما لم يكن الحمار بمنأى عن اعتداءات المستوطنين، والذين يتعمدون سرقة مختلف حيوانات الفلسطينيين، خصوصاً تلك التي تشكل مصدر رزق لهم.
يعمل خليل النواجعة في مهنة التعليم منذ نحو 30 عاماً، ورداً على تساؤل حول ما إذا كان التنقل عبر الحمار يشكّل له حرجاً باعتباره معروفاً في وسطه الاجتماعي. يقول: "لا أخجل من القول إن الحمار يشاركني الشقاء ومواجهة الاستيطان، لأني أتحرك به لتعليم الطلاب متجاوزاً عوائق الاحتلال، وأعمل به بعد الدوام المدرسي في فلاحة الأراضي المهددة بالاستيطان كونها محاذية للشارع الالتفافي. الحمار مقرون بالأرض، وطالما أنه موجود سنواصل الحركة والفلاحة. الأمر لا علاقة له بالخجل، بل بالصمود والتواضع".
ويستحضر المعلّم النواجعة أحداث قطاع غزة في تنقله اليومي عبر حماره، قائلاً: "رغم هول المجازر في غزة، يبحث الناس هناك عمّا يتجاوزون به منغصات الحياة، ورغم المجازر التي تعرضوا لها، وتدمير البيوت وتخريب الطرقات، لكنهم لم يعدموا وسيلة لاستمرار الحياة. نعيش في يطا مشهداً مصغراً من غزة، فمنازلنا تهدم، وإن كنا لا نتعرض للقتل، لكننا معرضون للتهجير وتقييد الحركة. رسالتي للطلبة أننا سنبقى على هذه الأرض مهما كلفنا الأمر، وعلينا الاستعداد لكل الاحتمالات. لا تهمني الأمور الشكلية طالما أن الأرض مهددة".
يكرر النواجعة رحلته اليومية على ظهر حماره متحدياً مشاريع التهويد والاستيطان التي يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى فرضها على الفلسطينيين عبر سلسلة من الإجراءات القمعية، بدءاً من إغلاق الشوارع الرئيسية، إلى نصب الحواجز على الطرق الفرعية.