في فلسطين، كما في دول أخرى اعتمدت التعليم عن بُعد وسط جائحة كورونا، يُسجَّل اعتراض على نتائج امتحانات الثانوية العامة، ويُحكى عن "تضخّم" فيها.
تماماً كما كان يتوقّع، حلّ التلميذ إياس محمد سرحان، من مدينة طولكرم شمالي الضفة الغربية المحتلة، في المركز الأوّل (مكرّراً) في امتحانات الثانوية العامة أو التوجيهي، بحصوله على معدّل نسبته 99.7 في المائة، علماً أنّه يشترك في ذلك مع 34 تلميذاً في الفرعَين العلمي والأدبي، ليحلّوا جميعاً في المركز الأوّل على مستوى الوطن. يأتي ذلك في حين باتت العلامات المرتفعة في الثانوية العامة لهذا العام مثار جدال في فلسطين. يقول إياس لـ"العربي الجديد": "كنت أنتظر هذه العلامة لأنّني استعددت جيداً للامتحانات، علماً أنّها كانت سهلة ولم تكن الأسئلة تختبر قدرات التلاميذ بشكل فعلي. وقد يكون هذا هو السبب الرئيسي لنيل تلاميذ كثيرين علامات مرتفعة تفوق توقّعاتهم".
من جهتها، حازت التلميذة ميس أحمد، من مدينة نابلس شمالي الضفة الغربية، على معدّل نسبته 98 في المائة، علماً أنّها لم تكن تتوقع ذلك. وتقول لـ"العربي الجديد": "صدقاً كانت مفاجأة كبيرة. كنت أمنّي نفسي بعلامة على مشارف التسعين. أمّا أن تكون 98 في المائة فهذا حلم". تضيف ميس: "لقد أجبت بشكل جيد على كلّ الاسئلة، لكنّ حساباتي كانت أقلّ ممّا حصلت عليه، ولا أعلم إذا كان الأمر مرتبطاً بتراخٍ في تصحيح الأسئلة أم قراراً بمنح علامات إضافية للتلاميذ". يُذكر أنّ حالة ميس تكرّرت مع آلاف التلاميذ، خصوصاً الذين يعدّون من الشريحة المتوسطة، فحازوا علامات أعلى من توقعاتهم ومستوياتهم.
ومنذ اللحظة الأولى لإعلان النتائج، راح يدور جدال حول الارتفاع غير المسبوق في العلامات. فإلى جانب الارتفاع غير المسبوق، تقاسم للمرّة الأولى 34 تلميذاً المركز الأول، بحصول كلّ واحد منهم على معدّل نسبته 99.7 في المائة (18 تلميذاً في الفرع العلمي و16 في الفرع الأدبي). كذلك حلّ 148 تلميذاً بعد هؤلاء مباشرة في المركز الثاني، مع 99.6 في المائة. يُذكر أنّ عدد الذين تقدّموا لامتحانات الثانوية العامة هذا العام بلغ 82 ألفاً و924 تلميذاً، نجح منهم 59 ألفاً و182 تلميذاً، بنسبة بلغت 71.37 في المائة، وهي نسبة مرتفعة مقارنة بالنتائج في الأعوام الماضية.
وفي مقارنة أعدّها المحاضر في كلية الدراسات العليا في الجامعة العربية الأميركية، خالد ربايعة، الذي يُعَدّ خبيراً في تحليل البيانات، تبيّن أنّ نسب المعدّلات المرتفعة غير طبيعية. وقد نشر على صفحته الخاصة على موقع "فيسبوك" جداول بيانية لنتائج عامَي 2021 و2019، أظهرت فرقاً واضحاً في نسب النجاح والتفوق. ففي العام الجاري، حصل 25 في المائة من التلاميذ على معدلات أعلى من 92 في المائة، فيما حصل 50 في المائة على معدّلات أعلى من 82 في المائة. ومن الأرقام المذهلة هذا العام، أنّ عدد التلاميذ الذين حصلوا على 99 في المائة وما فوق بلغ 1014، علماً أنّ 17 ألفاً و533 حصلوا على أكثر من 90 في المائة. أمّا في عام 2019، فقد نال 25 في المائة من التلاميذ أكثر من 87.5 في المائة، و50 في المائة أعلى من 78 في المائة. وكان عدد التلاميذ الذين حصلوا على 99 في المائة وما فوق قد بلغ 232، في حين حصل 9766 على أكثر من 90 في المائة، أي بفارق 7767 تلميذاً مقارنة بالعام الجاري. وعلّق ربايعة موضحاً أنّ توزيع العلامات يشير إلى أنّ نسبة تلك المرتفعة أعلى من الوضع الطبيعي، ويفترض في الوضع الطبيعي أن يكون التلاميذ بغالبيتهم موجودين في الوسط، أي ما يعادل الثلثَين، وأن تكون نسبة الحاصلين على نتائج متدنية متقاربة من نسبة الحاصلين على نتائج مرتفعة.
ويرى متخصصون أكاديميون وتربويون توفّر أسباب عدّة وراء التضخم في العلامات، أبرزها أسئلة الامتحانات التي كانت تتراوح ما بين سهلة وسهلة جداً وتعتمد على الحفظ، فيما نسبة لا تُذكر تُركّز على مهارات التفكير العليا من قبيل الفهم والتحليل والتقييم. بالنسبة إلى هؤلاء، فإن هذا النمط من الأسئلة يلغي إلى حد كبير دور الذكاء في الحصول على علامة أعلى، بالتالي تساوى التلاميذ الأكثر ذكاءً مع هؤلاء الأقل ذكاءً، فزادت بشكل كبير شريحة الذين حقّقوا علامات عالية. يُضاف إلى ذلك حذف جزء كبير (نحو 50 في المائة) من كلّ مادة، وفق قرار وزارة التربية والتعليم، في حين وفّرت الأسئلة الاختيارية للتلاميذ هامشاً للمناورة. ويوضح المتخصصون أنّ اللجان المكلفة وضع الأسئلة اعتمدت المادة المغطاة من قبل أقلّ المدارس تغطية للمنهاج، علماً أنّه كان للعدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة دور في تقزيم المادة المطلوبة وتسهيل الأسئلة مراعاة لظروف التلاميذ. ومن بين الأسباب كذلك، تعديل العلامات، إذ تعمد وزارة التربية والتعليم إلى رفع نسبة النجاح وتعديل العلامات، الأمر الذي نعكس إيجاباً على نتائج التلاميذ بمعظمهم إن لم يكن جميعهم، وبالتالي لا يرسب إلا المعدم تقريباً.
في هذا الإطار، يقول الأكاديمي زيد قمحية لـ"العربي الجديد" إنّ "ظاهرة تضخم العلامات وسوء التوزيع ظاهرة مرعبة، وهي ليست آنية، بل بدأت قبل أكثر من 20 عاماً، وهي ليست محصورة بفلسطين ومدارسها، بل تُسجَّل في دول كثيرة وفي قطاعات التعليم المختلفة، وتمضي وهي تتمدد". يضيف قمحية أنّ "القضية ليست في المناهج فحسب، بل ثمّة عوامل كثيرة أبرزها الإنسان والعاطفة، وما يندرج تحت هذا العنوان من سلوكيات كثيرة. كذلك فإنّ إلصاقها بجائحة كورونا وما ترتّب عليها من تعليم عن بُعد فقط، أمر غير دقيق. فهي قائمة من قبل".
وحول نتائج تلك الظاهرة، يرى قمحية أنّ "تضخم العلامات جعل التلميذ في مستوى أعلى بكثير من مستواه الأكاديمي الطبيعي، ومن شأن ذلك أن يؤثّر بالدرجة الأولى على معدّلات القبول في الجامعات، وقدرة التلميذ أصلاً على الاستمرار في دراسة تخصصه الذي اختاره بناءً على علاماته. فذلك النوع من التخصصات يتطلب قدرات ومهارات فائقة، من قبيل الطب والهندسة وغيرهما". ويتوجّه قمحية إلى التلاميذ قائلاً: "لا يغرنكم المعدّل المرتفع، فأنتم أعلم الناس بقدراتكم. لا تركضوا نحو تخصصات الطب والهندسة وغيرهما من التخصصات التي تؤهلكم معدلاتكم لدخولها، بل ابحثوا عن تخصّص يناسب قدراتكم وميولكم حتى لا يكون الفشل عنوان الفصل الجامعي الأوّل أو الثاني، الأمر الذي قد يضطركم إلى البحث عن تخصّص مختلف، فتكون الانتكاسة والإحباط والخسارة المادية الباهظة لكم ولذويكم". ويرى قميحة أنّ مواجهة ظاهرة تضخّم العلامات تتطلّب "الاعتراف أوّلاً بوجود مشكلة، ثمّ امتلاك إرادة للتصويب عبر عقد ورش ومؤتمرات للنقاش والخروج بالحلول. ويأتي بعد ذلك تطبيق الممكن من تلك الحلول، والاستفادة من الخبرات في كلّ قطاعات التعليم، وعدم حصرها في نطاق الوزارات المعنيّة فقط".
في سياق متصل، علّق مدير عام القياس والتقويم والامتحانات في وزارة التربية والتعليم، محمد عواد، على الجدال المثار، قائلاً إنّ "الزيادة في العلامات جاءت بسبب حذف ثلث كلّ مادة دراسية، بالإضافة إلى إتاحة فرصة اختيار خمسة أسئلة من أصل ثمانية أمام التلاميذ، وهو ما مكّنهم من اجتياز عدد من الأسئلة". ورأى عواد، في تصريحات صحافية، أنّ الارتفاع الحاصل في نسبة المتفوقين الذين تجاوزت معدلاتهم 90 في المائة طفيف ولم يتجاوز ستة في المائة مقارنة بالعام الماضي، مؤكداً أنّ العلامات التي حصل التلاميذ عليها هي علاماتهم الحقيقية من دون زيادات، ونسبة النجاح بقيت كما هي مقارنة بالعام الماضي ولم يطرأ عليها تغيير كبير.