لجأت نبيلة قائد إلى صنع البخور والمواد العطرية، باعتبارها الحلّ الوحيد الذي سيحول دون وقوع أسرتها في مجاعة محتملة، وتخفيف الحمل الثقيل عن زوجها في توفير لقمة العيش ومصارعة ظروف الحياة القاسية في اليمن، البلد المضطرب قبل سنوات عدة من عام 2020 الذي حمل مزيداً من الويلات لسكانه. وكغيرها من آلاف اليمنيات، تعمل السيدة نبيلة على صنع أقراص البخور المحلي في منزلها، ثم تطرق أبواب المنازل لعرض بضاعتها، وتقصد متاجر التجميل، في مدينة تعز، بهدف توفير حياة كريمة لأطفالها، وحتى لا تقودهم الظروف البائسة إلى مدّ يدهم والتسول. أجبرت الأوضاع التي خلقتها الحرب المستمرة منذ عام 2015 والتدهور الاقتصادي وتوقف التحويلات الخارجية، النساء في اليمن على توظيف مهاراتهن المنزلية في مساندة أزواجهن. وخلافاً لصناعة البخور الذي تبرع به نبيلة (40 عاماً)، احترفت اليمنيات خلال الأشهر الماضية إعداد الكيك والحلويات والمخبوزات الشعبية، بالإضافة إلى المطرزات الشعبية، من منازلهن، والبدء بتسويقها عبر منصات التواصل الاجتماعي. تعلق نبيلة لـ"العربي الجديد" أنّه كان لا بدّ من أن تتخذ هذا القرار، على الرغم من أنّ ارتفاع أسعار المواد الخام لصنع البخور يجعل هامش الربح بسيطاً جداً، لكنّ مشاهدة الإقبال على منتجاتها تجعلها تشعر بسعادة.
تحالفت الظروف السيئة على أكثر من نصف سكان اليمن خلال عام 2020، فالاضطرابات المتصاعدة شمالاً وجنوباً دفعت الاقتصاد إلى انهيار تاريخي. وفي ظلّ توقف عشرات البرامج الأممية المنقذة للحياة عقب تراجع التمويلات الدولية، فقدت العملة المحلية 25 في المائة من قيمتها، ولم يعد بمقدور كثيرين توفير وجبات كاملة لأطفالهم، إذ باتت البلاد على شفا السقوط في مجاعة وشيكة. بدأ شبح المجاعة يلوح في المدن اليمنية منذ عام 2018، لكنّ الأوضاع تدهورت بشكل مريع خلال النصف الثاني من عام 2020، بعدما باتت غالبية رواتب موظفي الدولة لا تتجاوز 100 دولار أميركي شهرياً، إذ قفز سعر الصرف من 214 ريالاً للدولار الواحد قبل الحرب، إلى 930 في ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
قبل عامين، كان التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) لليمن يشير إلى أنّ جيوباً سكانية تعاني من ظروف شبيهة بالمجاعة، لكنّ الخطر تفاقم أواخر عام 2020 بعد وصول التصنيف إلى المرحلة الرابعة، وهي مرحلة الطوارئ، وفقاً للتصنيف الأممي. وتوقع تقرير أممي حديث، اطلعت عليه "العربي الجديد" أن يرتفع عدد اليمنيين الذين يواجهون مرحلة الطوارئ الغذائية الرابعة من 3.6 ملايين نسمة خلال أواخر 2020، إلى أكثر من 5 ملايين في النصف الأول من 2021. وتعد المرحلة الرابعة من تحليل التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي التحذير الأخير قبل الدخول في مجاعة شاملة، ومن المتوقع أن تموت من جراء الجوع خلالها، الفئات الأكثر ضعفاً.
وعلى الرغم من المخاوف الأممية من مصير الناس في العام الجاري 2021، خصوصاً في ظلّ تقليص التمويلات المقدمة من المانحين، بدأت الظروف الشبيهة بالمجاعة تلوح في أواخر هذا العام بالذات، مع معاناة مليونين و100 ألف طفل من سوء تغذية حاد وفقاً لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف). وتقول المنظمة إنّ 360 ألف طفل منهم، معرضون لخطر الوفاة في حال عدم حصولهم على الغذاء والعلاج.
ويهدد الأمن الغذائي أيضاً، آلاف الأسر اليمنية التي قذف بها الصراع خلال 2020 في محافظات مأرب والجوف والبيضاء إلى الشتات، إذ يواجه نحو 100 ألف لاجئ في مأرب خطر المجاعة مع فقدان مصادر الرزق. وقال مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، في صنعاء، إنّ موجة النزوح دفعت واحداً من كلّ ثمانية يمنيين للتشرد، لكنّ مأرب والبيضاء وأبين وتعز وحضرموت والجوف، هي الأكثر تأثراً بانعدام الأمن الغذائي.
يهدد الأمن الغذائي أيضاً، آلاف الأسر اليمنية التي قذف بها الصراع خلال 2020 في محافظات مأرب والجوف والبيضاء إلى الشتات
يتحمل برنامج الأغذية العالمي، الحائز جائزة نوبل للسلام، العبء الأكبر من العواقب التي قد تؤول إليها الأوضاع في اليمن خلال العام الجاري على وجه التحديد، إذ يعتبر أن ما يجري "كارثة وقنبلة موقوتة" تستدعي من العالم التحرك سريعاً قبل انفجارها. وبحسب تقرير صدر في أواخر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، قال برنامج الأغذية إنّ درجة واحدة فقط تفصل 3.6 ملايين يمني عن المجاعة، فيما العدد قد يرتفع إلى الضعفين في يونيو/ حزيران المقبل. وتحدث المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي، ديفيد بيزلي، بحرقة عن الوضع اليمني في التقرير، فقال: "معاناة اليمنيين اليوم، بصراحة تامة، أكثر إثارة للشفقة من ذي قبل، العدّ التنازلي للمجاعة بدأ الآن، ولا يفصل بين الناس ومستوى جديد تماماً من البؤس، سوى أشهر".
في ما يشبه خطة شاملة لتفادي المجاعة، دعا برنامج الأغذية العالمي إلى العمل سريعاً على "وقف التلاعب بالوصول الإنساني" من جانب الفصائل المسلحة، في إشارة إلى عمليات نهب المساعدات وبيعها في السوق السوداء، وطالب بضرورة استقرار العملة للمساعدة في زيادة توافر الغذاء وزيادة ثقة المانحين في المجال الإنساني. وبعد تأكيده ضرورة إسكات البنادق بشكل كامل خلال العام الجاري، قدّر برنامج الأغذية العالمي حاجة اليمن بـ 1.9 مليار دولار، لتجنب المجاعة المحتملة هذا العام.
وخلافاً للمجاعة التي تشكل العنوان الأبرز لمعاناة اليمنيين، يبرز الوضع الصحي كهاجس رئيس في ظل تفشي عدد من الأمراض الوبائية وتردي الخدمات الصحية وتراجع التدخلات التي تقوم بها المنظمات الأممية بعد توقف التمويلات. ويقول أحمد الشيباني، وهو طبيب أمراض باطنية في مدينة تعز لـ"العربي الجديد" إنّ ضعف الخدمات الصحية هو الخطر الأكبر الذي يوازي المجاعة إن لم يكن أكبر منه، خصوصاً بعد تفشي أوبئة فتاكة تعجز المنظومة الصحية المتهالكة عن التصدي لها. يضيف: "مئات الأشخاص ماتوا في اليمن خلال النصف الثاني من العام، من جراء أمراض وبائية يصعب تشخيصها في اليمن، فباتت الحُميات هي القاتل المجهول، في ظل عدم اعتراف الناس بوجود فيروس كورونا (بالإضافة إلى ضعف قدرات التشخيص والوقاية والتعامل مع كورونا). ومن المتوقع أن تشهد الأشهر المقبلة مزيداً من الانهيار، في ظل استفحال أمراض الكوليرا وحمى الضنك والدفتيريا". وتشير تقارير أممية إلى أنّ الأمراض الوبائية الثلاثة تلك، أودت بحياة أكثر من 200 شخص خلال عام 2020، على الرغم من أنّ جميع الوفيات لا تسجل في المرافق الصحية، ولا تُعرف أسبابها خصوصاً في المناطق الريفية النائية.