تستمر مأساة اللاجئين العالقين على الحدود البولندية-البيلاروسية (روسيا البيضاء) مع إصرار سلطات جانبي الحدود على استخدامهم في لعبة سياسية أكبر من مجرد طلب لجوء في الاتحاد الأوروبي، رغم أنّ تكلفة هذه السياسة باتت تحصد أرواح البعض بسبب البرد والجوع والمرض، وهم متروكون من دون علاج أو مساعدة.
بعد الوعود الوردية التي قُدمت لهم قبل تهريبهم، تقطّعت السبل بهؤلاء على الحدود البولندية- البيلاروسية، حتى أبدى البعض رغبته بالخروج من هذا المأزق بالعودة إلى بلاده الأصلية، كحال بعض السريلانكيين والأفارقة الذين فقدوا أوراقهم الثبوتية في غابات حدودية. وبعد اليأس من الأوضاع المزرية، لم يستطع هؤلاء حتى طلب المساعدة من وارسو المتصلبة في موقفها الرافض التعاطي مع العالقين في "الأرض الحرام" بين البلدين.
ولتزداد الأمور مأساوية، بات الجوع والبرد ينهشان أجساد اللاجئين، ومن بينهم عراقيون وعرب آخرون، وأفغان وكاميرونيون ونيجيريون، حيث فقد أربعة منهم أرواحهم خلال الأسبوع الماضي نتيجة البرد والصقيع، من دون أن يتمكن الآخرون من مساعدتهم لقلّة وشحّ مواردهم. ورغم محاولات بعض المنظمات الإنسانية البولندية تقديم بعض البطانيات للعالقين على الأراضي البولندية، ورمي الطعام للمتروكين لأنفسهم على الجانب البيلاروسي، فإنّ الأوضاع تزداد سوءاً مع مرور الأيام وبدء موسم الصقيع الليلي في عراء تلك الغابات.
بات الموت برداً يلاحق العالقين، الذين نقلتهم سلطات مينسك بحافلات وتركتهم يعانون الأمرين على حدود الاتحاد الأوروبي، إن كانت دول البلطيق أو بولندا، حيث يفضّل طالبو اللجوء والهجرة بولندا لقربها من ألمانيا، في لعبة سياسية متواصلة منذ صيف العام الحالي. إذ كان الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو قد أعلن سابقاً أنّ بلاده لن تمنع طالبي اللجوء من الوصول إلى أوروبا، ما فتح الباب واسعاً أمام انتقال الآلاف منهم، باتهامات أوروبية رسمية برعاية لوكاشينكو للنقل المنظم لهم، من بلادهم الأصلية ومن العاصمة مينسك إلى الحدود.
وليست سلطات لوكاشينكو وحدها المسؤولة عن مأساة ترك الناس تموت برداً وجوعاً واللامبالاة بالمرضى والنساء والأطفال، فسلطات وارسو تتعامل مع هؤلاء بقسوة شديدة دفعت، الثلاثاء الماضي، بمتظاهرين إلى الشارع للاحتجاج على المعاملة "غير الإنسانية" لطالبي اللجوء، كما وصفها المتظاهرون ومنظمات بولندية، بعد الكشف عن الوفيات الأربع. ورغم الانتقادات التي وجهتها مفوضة شؤون الهجرة والداخلية في الاتحاد الأوروبي إلفا يوهانسون إلى السلطات البولندية، والمطالبة بتحقيق حول أسباب وفاة 4 من اللاجئين برداً، تستمر وارسو بالدفع بجنودها لمنع تدفقهم وتقديم أية مساعدة لهم.
وطالبت يوهانسون الحكومة البولندية بالسماح لوكالة حماية الحدود الأوروبية، فرونتيكس، بالوصول إلى الحدود التي يتجمّع عندها نحو 7 آلاف من جنسيات عدّة، وفق أرقام صرّح بها رئيس الحكومة البولندية ماتيو مورافيتسكي مؤخراً، معتبرة أنّ ما يجري هو بمثابة "انتهاك للقانون الدولي".
وشدّدت المفوضة على أنّ تذرّع وارسو بمسألة السيادة لا يبرّر ترك الناس في ظروف مميتة، مؤكدة في السياق أنّ "حق الدول السيادي بالتعامل مع حدودها لا يعني أن يجرى انتهاك حقوق الإنسان، بما في ذلك حق طلب اللجوء"، واعتبرت أنّ ما يحدث يتطلب تحقيقاً. وألمحت في انتقاداتها إلى النقل الممنهج لسلطات وأمن بيلاروسيا للاجئين إلى الحدود، "ما يعرّض حياتهم للخطر". ويقوم الجيش البولندي بإرجاع كلّ من يجرى توقيفه إلى نقطة الحدود، وهي سياسة انتقدتها أيضاً المفوضية الأوروبية.
ولا تزال منظمات إنسانية تابعة للأمم المتحدة تنتظر، منذ أسابيع، سماح سلطات وارسو لها بالوصول إلى تجمعات المهاجرين واللاجئين على الحدود، لتقديم بعض المساعدات الطبية والغذائية لهم.
ويعاني الآلاف ممّن تقطّعت بهم السبل من الجوع والعطش والبرد، خصوصاً في ظلّ غياب المنظمات الإنسانية على الجانب البيلاروسي الذي تتحكم به قوات الجيش، على عكس الجانب البولندي الذي تسلّط فيه وسائل الإعلام الضوء على الأوضاع المزرية للاجئين، وتحاول منظمات المجتمع المدني في وارسو تقديم ما أمكنها من مساعدة لهم، مخاطرة بالاصطدام مع قوات الأمن التي تمنع الوصول إلى هؤلاء، الذين يشعرون بتعرّضهم لخديعة كبيرة بعد وعود بالتهريب المريح إلى أراضي الاتحاد الأوروبي.
ورغم المبلغ الكبير الذي دفعه عراقيون وأفغان، حوالي ألفي يورو، للوصول إلى أوروبا عبر مينسك، يروي البعض شهادات مروعة عن طريقة التعاطي معهم بمجرد وصولهم إلى مينسك. ويذكر هؤلاء الذين وصلت إليهم منظمات بولندية أنّ الجيش البيلاروسي، وعلى عكس وعود التهريب، يقوم بنقلهم ويتركهم عند حدود دول البلطيق وبولندا ليتدبّروا أمرهم بأنفسهم. ولا يقدّم لهؤلاء أي طعام "فقط ألقوا قطع خبز يابس وحبة بطاطس للشخص ثم تركونا لمصيرنا"، كما يروي شاب عراقي لمنظمة إغاثية بولندية. وتفرض السلطات البولندية "حالة طوارئ" على الحدود للحدّ من وصول المنظمات الإغاثية والصحافيين إلى اللاجئين.
وعلى الرغم من تمكّن بضعة مئات منهم من الخروج عبر طرق التهريب عبر بولندا، يشعر أغلبية العالقين بأنهم تحوّلوا إلى كرة تتقاذفها السياسة بين بيلاورسيا والاتحاد الأوروبي. ويعاني اللاجئون المنتشرون على حدود طويلة من الغابات من حصار على جانبي الحدود، فلا هم قادرون على العودة إلى بيلاروسيا ولا الدخول إلى أراضي الاتحاد الأوروبي، رغم إبداء العشرات منهم رغبتهم بالعودة إلى بلادهم الأصلية. وكانت الضغوط الأوروبية أوقفت الرحلات الجوية المنتظمة من مطارات عراقية إلى مينسك بتدخل من حكومة بغداد، فيما الاعتقاد السائد أنّ وصول المزيد يعني التفافاً بيلاروسياً بطريقة أو بأخرى على ذلك المنع، بتشغيل رحلات من مطارات أفريقية وغيرها. وتتهم مصادر أوروبية الرئيس لوكاشينكو باستغلال أزمة اللاجئين الأفغان لتسيير رحلات لهؤلاء عبر بلده، للضغط على الاتحاد الأوروبي لرفع العقوبات عن نظامه.
ووجّه رئيس الحكومة البولندي مورافيتسكي، على خلفية تزايد مآسي العالقين، انتقادات لاذعة لسلطات بيلاروسيا، التي اتهمها بأنها "تستخدم المهاجرين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لزعزعة الوضع السياسي". ويعتقد مورافيتسكي أنّ ميسنك لا تلعب وحدها في هذا الملف، بل إنّ موسكو تساعدها في سياسة إغراق أوروبا عن طريق إحضار مهاجرين من دولهم، للضغط على الاتحاد الأوروبي ليحسّن سياساته تجاه البلدين.