المشهد في مدينة القدس المحتلة، خصوصاً في بلدتها القديمة، لا يوحي بالعيد، لا سيّما مع غياب المظاهر التي اعتاد عليها المقدسيون بعد صوم شهر رمضان. وعشيّة عيد الفطر، أشار كثيرون إلى أنّ البهجة التي اعتادوا عليها غابت. فقد فرضت مقاومتهم في باب العامود وهبّتهم ضد ممارسات الاحتلال وما أعقبها من اقتحامات للمسجد الأقصى على مدى الأيام الماضية، مشهداً آخر يخطف البهجة التي ألفوها وهم يتهيأون للعيد من خلال التسوق، لا سيّما شراء الملابس الجديدة للأطفال.
ويبدو الأمر واضحاً سواء في البلدة القديمة ومحيطها أو في حيّ الشيخ جراح الذي كان وما زال عنواناً لمقاومة وهبّة يبدو أنهما مستمرتان، في حين تتجه أنظار المقدسيين بقلق صوب ما يجري من عدوان إسرائيلي على قطاع غزة. ويقول محمد الصاحب، وهو ناشط مقدسي شاب، إنّ "القلق لا يخفي فخر المقدسيين بمقاومتهم هناك والتحامها مع هبة فلسطينيي الأراضي المحتلة في عام 1948"، علماً أنّه قرر مع أصدقائه هذا العام التخلي عن طقوس العيد واستبدالها بملازمة ساحة الشهداء عند باب العامود لينالوا من هذه الساحة التي قاومت الاحتلال "شرفاً وكرامة". يضيف الصاحب أنّه "ما من شرف نسعى إليه أفضل من كرامتنا في ساحتنا هنا، حيث ارتقى قبل أعوام شهداء من هبة القدس والأقصى. العيد بالنسبة إلينا فرحة انتصار وصلاة في المسجد الأقصى الذي دنّسته بساطير جنود الاحتلال".
وفي حيّ الشيخ جراح حيث ما زال صوت المقاومة يعلو وكذلك صمود الأهالي، فإنّ العيد بالنسبة إلى قاطنيه، وتحديداً للعائلات المهددة بإخلاء منازلها، هو "البقاء ورفض الإخلاء والانتصار على من أتى ليغتصب بيتك ويعيدك إلى هجرة أخرى". ويقول المواطن المقدسي نبيل الكرد، وهو ربّ إحدى العائلات المهددة بالإخلاء، عشيّة العيد، إنّ "من يحدّثنا عن العيد فليأت إلى حيّنا وسوف نستقبله بكل محبة. عدا ذلك، منذ سنوات، نحن لا نعيش بهجة العيد وليس لنا هذا العام بعدما صمنا شهر رمضان أيّ برنامج خاص ولا نعد أيّ احتفال". ويسأل "كيف نحتفل ونحن ما زلنا نقاتل من أجل مصيرنا وبقائنا في منزلنا؟".
وهذا لسان حال سكان آخرين من الحيّ، منهم عبد الفتاح اسكافي، المهددة عائلته كذلك بإخلاء منزلها. يقول إنّه "في هذا العيد، ليس لدينا سوى الصلاة في المسجد الأقصى. الصلاة هناك لها معنى ورمزية، خصوصاً في هذا العام. بعد ذلك نعود إلى منازلنا ونطمئن على عوائلنا وأقاربنا وأصدقائنا، فيما بيوتنا كلها مفتوحة لكلّ مهنئ بالعيد".
في خلال إعلانه أنّ اليوم، الخميس، هو أوّل أيام عيد الفطر، لم يفت المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية الشيخ محمد حسين أن يهنّئ الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية بهذه المناسبة. وفي حديث إلى "العربي الجديد"، يوجّه تحية خاصة لأهل بيت المقدس الذين يمرون هذه الأيام بأوضاع صعبة تخطف منهم بهجة العيد. ويقول: "مع كلّ هذا الألم الذي نعيشه ويحياه أبناء شعبنا، فإنّ العيد محطة واستراحة لمن حارب الظلم والعدوان والطغيان. والمسجد الأقصى بات عرضة للاقتحامات اليومية وللاعتداءات المستمرة من قبل الاحتلال ومستوطنيه على حدّ سواء". يضيف أنّ "خير الأعياد مع عيد الفطر هو شرف الرباط الذي كرّم الله به أهل بيت المقدس مدافعين منافحين عن مسجدنا نيابة عن أمّتنا كلها".
من جهة أخرى، في البلدة القديمة من القدس التي تهيّأ تجارها منذ بداية شهر رمضان لهذه المناسبة، يبدو مشهد العيد مختلفاً عما كان عليه في الأعوام الماضية. يُذكر أنّ أزمة كورونا فرضت في العام الماضي مشهداً صادماً للتجار وللمواطنين على حدّ سواء، هؤلاء الذين لم يتمكنوا من الاحتفال بالعيد بسبب الوضع الوبائي. وهذا العام، على الرغم من أنّ فيروس كورونا الجديد ما زال يتفشّى، فقد عمد أصحاب المحال إلى التزوّد بالبضائع الخاصة بالمناسبة، من قبيل ملابس الأطفال والحلويات والمكسّرات وغيرها للتعويض عن العام الماضي. لكنّ التسوّق بدا خجولاً عشيّة هذا العيد، فحركة الشراء ضعيفة وبالكاد يقصد الناس تلك المحلات.
ليس أمام الناس هنا سوى الصمود والرباط. ونحن نستلهم ذلك من وحي رمضان ومن العيد الذي نحييه بالصلاة في الأقصى
وبحسب رئيس لجنة التجار المقدسيين حجازي الرشق، فإنّ "المواجهات الأخيرة في ساحة باب العامود انعكست سلباً على هذه الحركة وعلى النشاط التجاري الذي يواجه منذ بداية أزمة كورونا انهياراً كبيراً دفع كثيرين من أصحاب المحال إلى إغلاقها". يضيف الرشق، متحدثاً لـ"العربي الجديد"، أنّ "التجار كانوا يعوّلون على العيد لإنعاش حركة التجارة المشلولة". لكنّه يشير إلى أنّه "ليس أمام الناس هنا سوى الصمود والرباط. ونحن نستلهم ذلك من وحي رمضان ومن العيد الذي نحييه بالصلاة في الأقصى"، مؤكداً أنّ "للصلاة في مسجدنا هذا العام معنى خاصاً".
وعلى الرغم من المعاناة الناجمة عن الاحتلال وممارساته، تجد عائلات عدّة فرصة تجعل من خلالها أطفالها يعيشون فرحة العيد ولو بشكل محدود. ويشير علي العناتي إلى أنّ "هذه الفرحة قد تُختصر بشراء الملابس وحلوى المعمول والمكسّرات، مع الاحتفاظ بصلة الرحم ومعايدة الأهل والأقارب والأصدقاء". يُذكر أنّ العناتي متزوج من امرأة فلسطينية من قطاع غزة، وهي لن تتمكن هذا العام من زيارة عائلتها في القطاع المحاصر.
وبالعبارة التي اعتاد كثيرون تردادها، يقول عماد أبو خديجة، من حيّ باب السلسلة في البلدة القديمة من القدس: "بأيّ حال عدت يا عيد!". بالنسبة إليه، فإنّ هذه العبارة "تلخّص حال كل المقدسيين الذين أمضوا شهر رمضان في مقارعة الاحتلال والصمود أمام ما تعرّضوا له من عدوان ومن محاولات للمسّ بالمسجد الأقصى". وأبو خديجة يدير محلاً كبيراً في باب السلسلة، فتح أبوابه طيلة رمضان لاستقبال مرتادي المدينة المقدسة الذين كانوا يأتون إلى الأقصى لأداء صلاة التراويح فيه. وعلى الرغم من شلل حركة التسوّق في البلدة القديمة، كان أبو خديجة واحداً من الذين تبرّعوا بوجبات إفطار لقاصدي المسجد الأقصى، وذلك في إطار مبادرة شارك فيها عدد من مطاعم البلدة القديمة، تبرّع لها تجار وأشخاص من أهل الخير بالمال اللازم. يُذكر أنّ حلويات العيد لم تغب هذا العام، على الرغم من كلّ شيء. ومشهد أطباق حلوى المعمول التي يشتهر بها المقدسيون، وهي حلوى العيد المفضلة بالنسبة إليهم، كان حاضراً في محلات عديدة، كذلك مشهد المكسّرات.
في سياق متصل، كانت الأوقاف الإسلامية قد أعدّت من جهتها طقوس العيد المعتادة، ودعت المواطنين إلى عمارة المسجد الأقصى بأداء صلاة العيد. وعشيّة العيد، قال مدير المسجد الأقصى الشيخ عمر الكسواني لـ"العربي الجديد": "لقد أتممنا كامل استعداداتنا للعيد، وندعو أبناء شعبنا لمشاركتنا فرحة الصلاة به، خصوصاً بعد أسابيع الألم التي عشناها طيلة شهر رمضان".
تجدر الإشارة إلى أنّه حتى اليوم الأخير من شهر رمضان، عمد عشرات المتطوعين والمتطوعات إلى إزالة آثار ومخلفات العدوان على المسجد الأقصى، خصوصاً قنابل الغاز التي ألقيت بالمئات على المعتكفين. وهم لم يتخلّصوا منها، بل جمعوها كلها وجعلوها على شكل مسجد الصخرة المشرفة لتذكير الجميع بما تعرّضوا له وبما أصابهم من أذى.