فيما يطغى التعاطف الشعبي مع غزة على كل جوانب الحياة في العراق تقديراً لمعاناة الفلسطينيين واحتراماً لدماء الشهداء الذين يسقطون في الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، اختفت كثير من العادات التي يشتهر بها العراقيون، ومن بينها الاستعانة بالفرق الموسيقية الشعبية للاحتفال ولتعبير عن الفرح في مختلف المناسبات، مثل الزواج والتخرج ونجاح الأولاد في المدارس، وحتى الختان والولادات.
يقول رشيد الفهد، وهو صاحب مكتب للموسيقى الشعبية بالعاصمة بغداد، في حديثه لـ"العربي الجديد": "لا يستغني العراقيون عن الاستعانة بالفرق الموسيقية الشعبية في المناسبات المختلفة، لذا قد ينضم عازفون إلى ثلاثة فرق في وقت واحد، ويعزفون في أكثر من مناسبة أسبوعياً. تضم الفرق الموسيقية الشعبية ثلاثة أو أربعة عازفين على آلات مثل الطبل والبوق والرق، وتقدم العرض الفني المطلوب استناداً إلى وقت يجري الاتفاق عليه مع أصحاب المناسبة، وقد لا يتجاوز الوقت نصف ساعة أحياناً، ومن الدارج تقديم العزف الفني المرافق في الشارع، وتحديداً أمام منزل صاحب المناسبة، كي يشارك الناس فرحته".
يضيف الفهد: "جميع من أرادوا أن يشهروا أفراحهم عبر الاستعانة بالعروض الموسيقية لفرقنا ألغوا ذلك بعدما بدأ الصهاينة حربهم المدمرة في غزة. اتصل بي أشخاص سبق أن حجزوا مواعيد، وأبلغوني أنهم لن يلتزموا بحجوزاتهم، وأنهم لن يشهروا عن مناسباتهم في وقت يذبح فيه الفلسطينيون. لكن ذلك لم يمنع أيضاً خروج فرقنا طوعاً للعزف في الشوارع لدى إعلان شن المقاومة هجوماً ناجحاً منذ عملية طوفان الأقصى، ودعانا كثيرون إلى إحياء فرحهم بالغزوة المباركة التي شنها إخواننا الفلسطينيون على مواقع العدو الإسرائيلي".
قبل نحو شهر، أجرى المرشح لانتخابات مجالس المحافظات التي أقيمت في 18 ديسمبر/ كانون الأول، محمد صالح، تعديلاً على البرنامج الدعائي لحملته، والذي أعده قبل أكثر من ستة أشهر، وكان يشمل حفلات موسيقية وغنائية يحييها فنانون متخصصون في أداء المقام العراقي.
يقول صالح الذي يحمل شهادة ماجستير في التراث البغدادي، لـ"العربي الجديد": أردت أن أجعل التراث العراقي قاعدة لإطلاق حملتي الانتخابية تمهيداً لكسب ثقة الجماهير، ثم ألغيت الحفلات لأنها تتعارض مع أخلاقياتنا في وقت ينزف فيه إخوتنا في غزة من جراء العدوان الصهيوني البشع".
ويشتهر العراقيون في المناسبات السعيدة بعادة إطلاق النساء "الهلاهل" أو ما يعرف بـ"الزغاريد"، وهي تعتبر من أكثر العادات الموروثة لأنها تعبر عن الأفراح، وتعرّف الجيران بوجود خبر سعيد، وتكثر خصوصاً لدى عقد الزيجات في المحاكم.
تخبر أميمة الربيعي "العربي الجديد" أنها كانت تنتظر بشغف زواج ابنها، لكنها لم تطلق "الهلاهل" عند عقد القران في المحكمة بعدما اتفق أفراد عائلتها على عدم إشهار المناسبة بمراسم أو موسيقى أو أفراح ما دامت الحرب على غزة قائمة.
كما باتت اليوميات في غزة جزءاً من يوميات مواقع التواصل الاجتماعي في العراق بدلاً من الأخبار والمناسبات الشخصية، السعيدة أو الحزينة، والتي اعتادوا نشرها طوال سنوات، لا سيما على منصة "فيسبوك" التي يستخدمونها أكثر من غيرها، وأصبح من النادر أن ينشر أشخاص ما يشير إلى أنهم يعيشون لحظات سعيدة، مثل صور أو مقاطع فيديو لنزهاتهم وسفراتهم ولقاءاتهم.
يقول عادل علي لـ"العربي الجديد"، إنه اعتاد على عدم نشر مواضيع تعبر عن سعادته عند حصول حدث حزين في العراق، مثل تفجير يتسبب في سقوط ضحايا، أو انهيار مبنى أو غرق أشخاص، أو مناسبة حزينة يمر بها الأقارب أو الجيران أو الأصدقاء، وكذا حين يواجه أي بلد عربي أزمات أمنية أو كوارث طبيعية.
ويقول حسين الفياض لـ"العربي الجديد": "لا يمكن أن أنشر ما يعبّر عن فرح أو سعادة في حساباتي على مواقع التواصل، مهما كان ذلك مهماً، ما دام أهلنا في غزة يعانون ويقتلون بلا هوادة على أيدي الإسرائيليين. مررت مع عائلتي خلال فترة الحرب على غزة بأكثر من موقف سعيد، إذ رزق أخي بمولود في 19 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وصادف 3 نوفمبر/ تشرين الثاني عيد ميلاد ولدي الوحيد البالغ عشرة أعوام، كما نجحت عملية جراحية أجراها والدي قبل أسبوع، وقد اعتدت أن أنشر أخبار جميع المناسبات السعيدة في حساباتي لأشاركها مع الآخرين، وكنت أرفقها بمقاطع موسيقية، لكنني لم أفعل ذلك لأن ألم غزة يدمي القلوب".