يوماً بعد يوم، تزداد حالات الجفاف في قطاع غزة في ظل شح المياه، وخصوصاً في المناطق المحاصرة في مدينة غزة وشمال القطاع، في الوقت الذي يعمد الاحتلال الإسرائيلي إلى قصف كل مصادر المياه.
تكثر حالات الإصابة بالجفاف في المناطق المحاصرة في مدينة غزة وشمال قطاع غزة، ويُحاول البعض الوصول إلى وسط مدينة غزة أو مجمّع الشفاء الطبي لضمان الحصول على المياه وسط حصار مستمر ومنع دخول المساعدات، عدا عن الانتهاكات المتواصلة وتدمير لمصادر المياه في ظل القصف المستمر. من جهة أخرى، فإن المياه المتوفرة ملوثة.
في هذا الإطار، أطلقت مبادرات لتوزيع المياه وسط مدينة غزة، كما تتولى محطات قليلة بيع مياه غير معالجة كما يوضح فلسطينيون في قطاع غزة. ويضطر الأهالي إلى استخدامها على الرغم من إدراكهم بأنها غير صحية. لكن نتيجة تدمير البنى التحتية، لا يزال عدد من الغزيين ما بين مدينة غزة وشمال القطاع غير قادرين على الوصول إلى مصادر المياه ما يؤدي إلى إصابتهم بالأمراض من بينها الجفاف.
ويمكن القول إن جميع أهالي غزة يعانون من العطش يومياً بنسب متفاوتة وخلال فترات معينة، لكن الأكثر معاناة منهم هم الموجودون داخل مدينة غزة وشمالي القطاع. وأصدر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان بياناً أوضح فيه أن العطش يغزو مناطق مدينة غزة وشمالها بشكل صادم جراء القصف الصهيوني الممنهج والمتعمد لآبار المياه، بالإضافة إلى نقص الوقود اللازم لتشغيل محطات تحلية المياه.
إذاً يعاني كثيرون، بينهم كبار السن والأطفال، في المناطق البعيدة عن مركز مدينة غزة وأطراف الأحياء الشرقية لمدينة غزة وشمال القطاع، من الجفاف، وقد دمر الاحتلال البنية التحية بالقرب منها بالكامل إلى درجة أنه تسبب في صدأ الصنابير، كما يقول عمر أبو عريفة (39 عاماً) الذي أصيب نجله الأصغر يامن (عامان) بالجفاف.
كان يفترض أن يحصل يامن على لقاحات لدى العيادة الحكومية في بلدة جباليا شمالي قطاع غزة في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لكن حجم القصف والدمار والعملية البرية الإسرائيلية في شمال قطاع غزة جعلت العائلة عاجزة عن الخروج من المنزل خوفاً من الاعتقال أو الإصابة، علماً أن المنزل تضرر وهم في داخله.
لم تحصل عائلة أبو عريفة على المياه خلال الأسابيع الأولى من العدوان الإسرائيلي، واضطرت إلى الاعتماد على المياه المتوفرة في الخزان التابع لمنزل جيرانها الذين نزحوا وسمحوا لهم باستخدام المياه التي كانوا يحصلون عليها من البلدية المحلية، لكنها صالحة للاستخدام المنزلي فقط وليس للشرب. وأصدرت العديد من المؤسسات البيئية تقارير عن تلوث مياه القطاع بنسبة 90 في المائة وذلك قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
يقول أبو عريفة لـ"العربي الجديد": "كنا نشرب بصعوبة علماً أن لدي خمسة أبناء داخل المنزل، وحرمت نفسي كثيراً من شرب المياه لأجلهم. الإبن الأصغر أصيب بنزلة معوية أثناء الحصار الإسرائيلي لنا والاقتحامات ثم بدأت أعراض الجفاف وهزلان الجسم وجفاف الفم والشعور بخفة في الرأس والدوار". يضيف: "كان التواصل صعباً. مشيت وأنا أحمل طفلي لمسافة أكثر من 3 كيلومترات، وكنت جائعاً وأشعر بالعطش، حتى وصلت إلى عيادة في شمال القطاع تعمل بإمكانيات بسيطة جداً. وجدت عدداً ممن أصيبوا بنفس أعراض طفلي، وقد حصلوا على محلول مدعم ببعض الأدوية التي لم تنفد بعد".
وما زاد الصعوبة في حالة أبو عريفة وغيره ممن يقيمون في شمال قطاع غزة والمصابين بالجفاف أنهم يحتاجون إلى كمية مياه كبيرة وعصائر، والتي لا يمكن ضمان توفرها في ظل الحصار وعدم وصول المساعدات المطلوبة إليهم، ما دفع البعض من أصحاب عائلات المرضى إلى النزوح إلى مدينة غزة والمكوث على مقربة من العيادات الطبية.
من جهتها، أصيبت أسرة عبد المعين خلف (60 عاماً) بالجفاف في حي الشيخ رضوان، وقد نزح أفرادها إلى مجمع الشفاء الطبي للحصول على المياه فقط. قبل ذلك، كانوا يتناوبون على شرب مياه شديدة الملوحة وبكميات قليلة، ما أصاب عدداً منهم بالإعياء.
شقيق عبد المعين (56 عاماً) أصيب بالجفاف. وعندما وصل إلى مجمع الشفاء الطبي، حصل على عدد من المحاليل الطبية التي استطاع المعنيون تدبرها بصعوبة حتى لا يفارق الحياة. أما أحد أحفاده ويدعى عبد الله، فقد أصيب بدوره بالجفاف، وكان بين عدد من الأطفال الذين لا يزالون موجودين داخل مجمع الشفاء الطبي ويتلقون علاجاً للجفاف والقليل من المياه التي يتدبرونها بصعوبة.
يقول خلف لـ "العربي الجديد": "عانيت بدوري من الجفاف. كنت أشعر بالدوار الشديد والتعب وجفاف الشفاه كثيراً، لكن شقيقي يعاني من مرض السكري، وعمر حفيدي لا يتجاوز الثلاث سنوات، ما يعني أن الأولوية لهما. واجهنا حصاراً خانقاً جداً. نحن على حافة العطش. نؤمن المياه بصعوبة ونشربها حتى لو كانت مالحة جداً. قبل أيام أمطرت السماء، فجمعنا مياه الأمطار في أوعية وشربناها رغم الطعم الغريب فيها".
وأشار تقرير لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة في الـ16 من الشهر الجاري، إلى أن 9 من كل 10 فلسطينيين في شمال قطاع غزة ومدينة غزة يتناولون أقل من وجبة واحدة في اليوم، والجوع ينتشر بشكل واسع في أنحاء قطاع غزة، ويشعر الناس بيأس متزايد في محاولة لإيجاد الغذاء لإطعام أسرهم.
وأعلن البرنامج عن تزايد حالات الجفاف وسوء التغذية بشكل متسارع في القطاع. وتعمل بعض محطات التحلية في المنطقة المحاصرة على تأمين مياه قليلة وتحليتها مستعينة بالطاقة الشمسية وتزويدها للمواطنين، لكنها شحيحة جداً وتتواجد في نقاط قليلة، بينما تعمل محطات تحلية في وسط وجنوب القطاع بواسطة الطاقة الشمسية أيضاً، على إنتاج ما بين 10 و15 ألف متر مكعب من المياه يومياً، في حين يحتاج سكان القطاع إلى نحو 300 ألف متر مكعب، أي ما يعادل 3 ملايين لتر يومياً في المناطق الجنوبية، بحسب رئيس بلدية خان يونس زهدي الغريز.
يشغل الغريز أيضاً منصب مساعد رئيس لجنة الطوارئ الحكومية في غزة. يقول إنه في المناطق الجنوبية، تعمل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" على مساعدة الناس للحصول على المياه. لكن رغم ذلك، فهي شحيحة. ويقول لـ"العربي الجديد" إن "كافة مرافق الحياة وقطاعاتها في حالة شلل غير مسبوقة. الناس تبحث عن المياه المالحة للشرب والمياه الأشد ملوحة لغسل الملابس".
في المنطقة الجنوبية ما بين وسط قطاع غزة وحتى أقصى جنوب قطاع غزة، سجلت حالات جفاف لكنها تبقى أقل بالمقارنة مع مدينة غزة. ولا شك أن الأعداد أكبر بكثير من تلك المسجلة، إذ إن العدد الأكبر لم يتمكن من الوصول إلى المراكز الطبية. ويشير أشرف القدرة إلى أنه رغم الطاقة الاستيعابية الضعيفة داخل مستشفيات جنوب القطاع، إلا أنهم يتعاملون مع حالات مرضية عدة، من بينها حالات الجفاف.
مصادر المياه مدمرة في غزة
يشير المرصد الأورومتوسطي في بيانٍ نشره في الـ15 من الشهر الجاري، إلى أن معدل الحصول على المياه، بما في ذلك مياه الشرب ومياه الاستحمام والتنظيف، يبلغ 1.5 لتر للشخص الواحد يومياً في قطاع غزة، أي أقل بمقدار 15 لتراً من متطلبات المياه الأساسية للبقاء على قيد الحياة.
ودمر الاحتلال الإسرائيلي خلال قصف مباشر ما لا يقل عن 12 بئراً أساسية للمياه بالنسبة للسكان المحليين، ما أدى إلى نقص حاد وغير مسبوق في المياه في مدينة غزة.
وتشير سلطة المياه الفلسطينية إلى أنه قبل بدء جيش الاحتلال هجماته العسكرية على القطاع في السابع من أكتوبر الماضي، كانت بلدية غزة تضخ شهرياً حوالي ثلاثة ملايين متر مكعب من المياه. وكان يتم توفير 700 ألف متر مكعّب يومياً من خط ماكروت الإسرائيلي، بما يمثل 25 في المائة، فيما يتم توفير 10 في المائة من محطة التحلية ونحو مليوني و200 ألف متر مكعّب من الآبار المحلية في المدينة، وباتت جميع تلك المصادر متوقفة تقريباً.
وبحسب رصد سلطة المياه، فإن الهجمات العسكرية الإسرائيلية المستمرة دمرت البنية التحتية المائية في قطاع غزة، بما لا يقل عن 65 في المائة من آبار المياه في مدينة غزة وشمال القطاع، وهي المنطقة الأكثر كثافة في جميع محافظات قطاع غزة الخمس والأكثر حاجة للمياه بشكل مستمر، ما يعني أنه حتى بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي، سيواجهون صعوبة في الحصول على المياه للاستخدام اليومي وفي منازلهم بسبب الدمار.