لن تواجه مشهداً غريباً وأنت تعبر تلال الرمل الصغيرة صعوداً وهبوطاً وسط تعرجاتها شجيرة عجيبة قابضة في الأرض نسميها "التّبَسْ". ولعل في الاسم تحريفاً لفعل الْتَبَسَ بمعنى أشكل واختلط وتشابك، إذ تختلط سيقان النبتة الرفيعة وتتشابك كمعظم النجيليات. ومن البديهي أن يكون لـ"التّبَس" أسماء أخرى في بيئات مغايرة، وهو نبات معمّر يتحمل الجفاف، ويصل ارتفاعه إلى أكثر من متر ونصف المتر، لكنه يبدو أقصر بسبب الانغراس في التلال الرملية المتموجة، في لوحة سريالية بديعة من صنع الطبيعة.
قد تبدو الصحاري مجافية للحياة والأحياء، لكن بعض الكائنات الجَّلِدة من نبات وحيوان تتجاوز هذا الجفاء بسبب قدرتها على العيش على كميات قليلة من الماء. فالنباتات الصحراوية لا تستغني عن الماء لتنمو وتتكاثر، لذا نجدها تجابه ندرة الماء بتكيفات متباينة، منها سماكة الأوراق والفروع درءاً للنتح، وطويلة الجذور التي تتعمق في بطن الأرض الرطبة، ومنها مثل التّبس التي تنتشر جذورها في شبكة قرب السطح بحيث تتلقى القدر الأقصى من الماء حين تمطر.
ويستخدم التّبَس في شمال السودان في تشييد مخازن الغلال والمحاصيل المخروطية (القطاطي - جمع قطية، والكرانك - جمع كُرنُك)، خاصة محصول البصل في مناطق نهر النيل لسهولة انزلاق ماء المطر على السيقان الملساء، ما يمنع وصول الماء إلى بطن المبنى، مع وجود مسامات بين السيقان المتينة تسمح بمرور الهواء.
يقول خبير الغابات البروفيسور طلعت دفع الله من جامعة الخرطوم بحري إن "التّبَس من النباتات العشبية من فصيلة النجيليات، وهو مجموع خضري كثيف يحمل سيقاناً وأفرعاً متشابكة، وله استخدامات في التطبيب والتداوي الشعبي، حيث جرى عزل وتحديد 72 مكوناً كيميائياً مضاداً للالتهابات، ولديه قدرة مضادة للأكسدة، ونشاط مضاد للجراثيم". وهو مثل النباتات الصحراوية القادرة على التكيُّف مع درجات الحرارة والجفاف الشديدين، باستخدام آليات جسدية وسلوكية، وهو ما تفعله الحيوانات الصحراوية، وسكان الصحراء من البشر.
في أعقاب موجة الجفاف الأخيرة، تعرضت النبتة لهجوم شرس من قبل النازحين البيئيين الذين لم يُبقوا على شيء، حتى يخيّل إليك أنك تسمع أنين ذرات الرمل، إذ من قال أن الألم حكرٌ على من يستطيع النطق والتعبير من الكائنات الحية؟ ألم يقل الروائي العربي إبراهيم الكوني إن "كل شيء في الصحراء يتألم ويفرح، حتى الأرض الخرساء، حتى الحجارة، وحتى ذرات الرمل".
وما دام بنو البشر بهذه الغلاظة والأنانية في التعاطي مع مكونات بيئاتهم، عليهم ألا يتباكوا حين يتغيّر المناخ.
(متخصص في شؤون البيئة)