في الصور الواردة من قطاع غزة الذي تستهدفه قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تكثر الأكفان البيضاء، لا بل جثث الشهداء المكفّنة بالأبيض. ومن الممكن قراءة رسائل حبّ ووداع على بعض من تلك الأكفان، كتبها فلسطينيون مفجوعون خطف الاحتلال منهم أحباءهم وأهلهم. "حياتي.. عيوني.. روحي" كتب فلسطيني على كفن زوجته التي استشهدت أخيراً في غزة. من جهته، كتب شاب آخر على كفن والدته "أمّي وكلّ شيء".
وبحلول اليوم الرابع والثمانين من العدوان الإسرائيلي، أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 21 ألفاً و507 شهداء و55 ألفاً و915 جريحاً، مع إشارة إلى أنّ 187 فلسطينياً استشهدوا وأُصيب 312 آخرين في الساعات الأربع والعشرين الماضية.
وكلّما زاد عدد الشهداء كثرت الأكفان. بالتالي صارت تلك الأكفان البيضاء، خلال الأسابيع الاثنَي عشر المنقضية، أشبه بدليل على وحشية الحرب في مختلف أنحاء قطاع غزة.
وبينما يُسجَّل نقص حاد في الغذاء والمياه والدواء في القطاع المحاصر، فإنّ الأكفان البيضاء ظلّت متوفّرة. لكنّ تلك الأكفان قد تلفّ شهداء مجهولي الهوية، فلا تُكتَب عليها أيّ "رسالة من القلب"، أو قد يُدوَّن عليها تاريخ الارتقاء وموقعه وجنس الضحية وعمرها التقريبي، على سبيل المثال.
في حالات كثيرة، يُكتَب "ذكر مجهول" أو "أنثى مجهولة"، ليُصار قبل دفن الجثة إلى التقاط صور لها، مع توثيق تاريخ سقوطها والموقع الذي انتُشلت منه، فربّما يتسنّى لأحد التعرّف عليها يوماً ما.
يُذكر أنّ الأكفان كانت من بين أوّل الإمدادات التي أُدخلت إلى قطاع غزة، بعد السماح بإيصال مساعدات إلى المحاصَرين فيه. وتتبّرع حكومات عربية ومؤسسات خيرية بالأكفان، وسط تخوّف من نقصها مع التزايد الهائل في عدد الشهداء، علماً أنّ فجوات تُسجَّل في بعض الأحيان بين منطقة وأخرى في القطاع المنكوب.
4 أو 5 شهداء وكفن واحد في غزة
يقول محمد أبو موسى، المتطوّع في جمعية "قيراطان" لتجهيز الموتى، لوكالة رويترز، إنّ مخزون الأكفان نفد في الأيام الأولى من الحرب على قطاع غزة. يضيف أنّ الأمر دفعه إلى لفّ "أربعة أو خمسة شهداء بكفن واحد".
ولأنّ عملية التكفين تتطلّب مسلتزمات عدّة، يشير أبو موسى إلى صعوبات واجهوها في الجمعية نتيجة نقص المشارط والمقصات والقطن لتحضير الجثامين، وسط الحصار الإسرائيلي المطبق على القطاع. ويعيد أبو موسى النقص إلى أرقام الشهداء "الخيالية"، فهي أتت غير مسبوقة بالحروب الأخرى.
من جهته، يرى مدير مستشفى أبو يوسف النجار في رفح (جنوب) مروان الهمص أنّ انتشار الأكفان البيضاء يشير إلى حجم المعاناة في قطاع غزة. ويوضح الهمص لوكالة رويترز أنّ "كثرة الشهداء جعلت الكفن الأبيض رمزاً لهذه الحرب"، ويشبّه تأثيره بـ"تأثير علم فلسطين" رمز القضية. ويؤكد أنّ "الكفن الآن هو رمز للقضية الفلسطينية ورمز لهذه الحرب.. حرب الإبادة ضدّ أبناء شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة".
ويذكر طبيب أنّ الأكفان التي تأتي من جهات متبرّعة عربية تصل مغلّفة وتحتوي على كلّ مستلزمات تهيئة الجثامين. وفي هذا الإطار، يوضح مسؤول في وزارة الصحة في غزة لوكالة رويترز أنّ "ثمّة نوعَين من الأكفان، إمّا من قماش وإمّا من نايلون... وأكياس النايلون تكون بلونَين أبيض وأسود، وأحياناً نستخدم اللونَين في عملية تحضير جثامين الشهداء للدفن". يضيف أنّهم يفضّلون اعتماد اللون الأبيض طالما هو متوفّر ويحاولون قدر الإمكان تجنّب الأسود، مشيراً إلى أنّ "مساعدات تصل إلينا في بعض الأحيان تكون الأكفان فيها باللون الأسود". أمّا الأكفان القماشية فكلها باللون الأبيض.
تكفين وسط "فوضى" غزة
في الأيام العادية في قطاع غزة، يشتري أقارب الميت كفنه لحظة مفارقة الحياة. لكن في زمن الحروب، وهذه الحرب تحديداً، رأى الصحافي الفلسطيني عبد الحميد عبد العاطي نفسه في موقف لا يشبه المعتاد، وسط الفوضى والدمار. هو رأى بأمّ عينه جثث ستّة من أحبائه تُسحَب من تحت الركام، من بينها جثّة والدته وجثّة شقيقه.
وسقط هؤلاء الستّة في غارة إسرائيلية على مخيّم النصيرات في وسط قطاع غزة في السابع من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، إذ دُمّر المبنى وهم نائمون.
ويروي عبد العاطي لوكالة رويترز كيف أنّه أخذ على عاتقه الاهتمام بكلّ الإجراءات، في تجربة وصفها بأنّها "الأكثر إيلاماً" في حياته. يضيف: "أخذت الأكفان من المستشفى وكفّنتهم بنفسي"، شارحاً أنّ "أوّل من كفّنته كان شقيقي. أمّا البقية، من ضمنهم والدتي، فقد كانوا ملفوفين ببطانيات. لم أرضَ الكشف عنهم، وكفّنتهم فوق الأغطية. لففتهم جيّداً وودّعتهم".
ويلفت عبد العاطي إلى أنّه "خلال تكفينهم، كنت أتحدّث معهم. قلت لهم سلّموا على والدي. وطلبت منهم أن يتشفّعوا لي عند ربّي، أنا وعائلتي". ويتابع: "حين كنت أكفّنهم، رحت أسأل عن ذنبهم، وما الذي اقترفوه؟ ولماذا قُتلوا بهذه الطريقة الوحشية؟ لماذا قتلتهم إسرائيل وهم نائمون في سلام؟".
ويقرّ عبد العاطي أنّ عزاءه الوحيد هو أنّ الجنة هي مثوى ذويه، مشيراً إلى أنّ "اللون الأبيض يرمز إلى السلام والهدوء. وفي ثقافتنا ومعتقدنا، من خلال الأكفان البيضاء نطلب من ربّنا أن يغفر لهم كلّ ذنوبهم وأن يتقبّلهم في الجنة".
وعند سؤاله عن مدى تفكيره باحتمال تعرّضه للموت، يجيب عبد العاطي أنّ الجميع يخاف، وأنّ كلّ واحد ينتظر دوره ليموت بمجرّد أن يحلّ الليل.
(رويترز، العربي الجديد)