اكتئاب الشتاء... ظلام يؤثر في مزاج سكان دول الشمال الأوروبي

02 يناير 2021
آثار نفسية على الصغار والكبار (ناصر السهلي)
+ الخط -

غيوم سوداء تلوح في ديسمبر/ كانون الأول ويناير/ كانون الثاني في دول الشمال الأوروبي. العتمة الصباحية تلازم ناس إسكندينافيا. أطفال يتثاقلون في الحركة، وأهل يستعجلونهم للذهاب إلى المدرسة والروضات، قبل الالتحاق بالعمل. فالصغار كالكبار في السويد يعيشون غياب الشمس هذا العام بشكل غير مسبوق منذ عام 1933.
الأمر عينه في باقي دول الجوار. ففي الدنمارك، التقى كورونا، بمتغيّرات اجتماعية، كقلة لقاءات الأجداد بالأحفاد. تبقى عتمة الصباح حتى ما بعد الثامنة خلال شهر الميلاد. غيومٌ داكنة تحجب الشمس، تزيد من شعور بداية فصل الاكتئاب. عند الثانية بعد الظهر تقريباً، كلّما تتجه شمالاً، يحلّ المساء مبكراً. عزاء الأنوار وعدم انقطاع التيار الكهربائي، مع انتشار ظاهرة إضاءة الشموع، لإشاعة بعض أجواء الدفء والتخلص من الاكتئاب، قد تخفّف قليلاً من جوّ نهاريّ "ركاميّ" أسود الغيوم.
صحيحٌ أنّ إسكندينافيا اعتادت على ندرة إشراق الشمس، لكنّ شيئاً مختلفاً بات يُلمَس في السنوات الأخيرة. بعض السياسيين وعلماء الأرصاد يحيلون تمدّد ظلمة الشمال باتجاه مدن شمالي الدنمارك، إلى متغيّرات مناخية. 
"اكتئاب الشتاء" مصطلحٌ نفسيّ في مجموعة دول الشمال، من أيسلندا شمالاً إلى فنلندا. تزايدت هذا العام ليعاني منها الملايين. هذا ما تفيد به دراسات متخصصة بالصحة الشعبية. فتتراوح نسبة المصابين باكتئاب الشتاء بما بين 10 و20 في المائة من السكان، بحسب أحدث تقارير عن الظاهرة.

في سنوات سابقة، وللهروب من أعراض الاكتئاب، كان الإسكندينافيون يفرّون جنوباً، نحو إسبانيا وجزرها، والمغرب، وتركيا ومصر، في رحلات "تشارتر" سياحية زهيدة الثمن، لأسبوع أو أكثر. لكنّ هذا العام يعتبر ثقيلاً، وتزيد توتراته جائحة كورونا التي أغلقت أمامهم خيار "سياحة الشمس". بعض العواصم يفرض اليوم حدّاً أقصى لالتقاء الناس بـ 6 إلى 10 أشخاص. وكبار السنّ يعيشون عزلة مضاعفة من دون إمكانية الخروج أو لقاء عائلاتهم، خصوصاً هؤلاء الذين انتقلوا للعيش في مراكز إيواء كبار السن.
في الدنمارك، تُسجل دوائر الصحة الشعبية في آخر تقرير لها بداية ديسمبر/ كانون الأول الماضي أنّ نحو 12 في المائة من 5.5 ملايين مواطن في البلاد يعانون عادة من "اكتئاب فصل الشتاء". لكن، في هذه الأيام، بحسب التقارير الرسمية نفسها، ترتفع نسبة من يعيشون حالة مزاجية سيئة. فنحو 2 في المائة من السكان يتناولون أدوية مضادة لـ"اكتئاب الشتاء". ومن بين الأعراض الملازمة لهذه الحالة "فقدان الطاقة، والشعور بالتعب، والإرهاق الجسدي، بالإضافة إلى الشعور بالحاجة إلى النوم أكثر، وهبوط في المعنويات وعدم الرغبة في لقاء الآخرين وتفضيل العزلة بدلاً من ذلك، وزيادة الشهية، خصوصاً على المواد الغنية بالكربوهيدرات؛ والتناول المفرط للشوكولاته، وحلويات أخرى، والخبز الأبيض، ومنتجات الدقيق، كالمعكرونة وغيرها، وملاحظة زيادة في الوزن.
تلك الأعراض الملازمة في الأوضاع الاعتيادية في هذه الدول، يفاقمها وقوع مجتمعات الشمال، في دائرة فرض التباعد الاجتماعي، وعودة سياسة الإغلاق إلى المقاهي والمطاعم، التي تشكّل ملاذاً للاستمتاع بأنوار الأعياد. وحتى هروب بعض المكتئبين إلى التسوق لم يعد ممكناً. الكمامة ملازمة لهم تحت سقوف مراكز التسوق التي تفرض حدّاً أقصى لدخول الناس، وبتباعد إلزامي يحصي عدد الداخلين والخارجين للسماح لدفعة جديدة للدخول إلى المتاجر. ويتزامن موسم "اكتئاب الشتاء" هذا العام مع طوابير فحص فيروس كورونا، إذ نَشرت على سبيل المثال، السلطات الصحية الدنماركية، عيادات متحركة "لا يجب أن تبعد عن مكان سكن المواطنين أكثر من 60 دقيقة" لإجراء ما يشبه مسحاً كاملاً للسكان طوال الشهر الماضي حتى نهايته.

نحو 12 في المائة من 5.5 ملايين دنماركي يعانون عادة من "اكتئاب فصل الشتاء"

السويد، تعيش سجال التغيّر المناخي كمسبّب لغياب الشمس منذ بداية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وهو ما لم تعشه البلاد منذ نحو 90 عاماً. "دائرة الصحة السويدية" تتحدث في تقاريرها عن الصحة النفسية لشعبها، إذ يزداد الانتحار أو محاولاته هناك أكثر مما في جاراتها الشمالية، فالاكتئاب المترافق مع أعراض الخوف أكثر انتشاراً بين فئة الشباب. وبحسب مديرة دائرة الصحة، أوليفيا فيغسل، فإنّ "الأمراض النفسية تواصل الزيادة بين الأطفال والشباب، وواحد من كلّ ثلاثة أشخاص من هؤلاء يعانون من اكتئابٍ وخوف أكثر مما كان قبل 10 سنوات". وحتى أنّ "الاكتئاب السويدي مسؤول لدى البالغين عن نسبة 40 في المائة من التغيّب عن العمل، فيما واحدة من كلّ ثلاث نساء يعانين في فترة ما من أعراض الاكتئاب، مقابل واحد من كلّ أربعة رجال". تثير زيادة الاكتئاب في السويد قلق مسؤولي الصحة النفسية في البلاد، إذ يفيد "المجلس الوطني للصحة ورعاية الرفاهية" بتضاعف عدد الفتيات اللواتي تتراوح أعمارهن بين 15 عاماً و17، مِمّن عولجن من الاكتئاب ومتلازمة القلق في الطب النفسي المتخصص للأطفال والمراهقين.
وبشكلٍ عام، لا يخفف فصل الشتاء المظلم من أعراض الاضطراب ومتلازمة القلق، إذ يخرج الناس إلى الأعمال والمدارس في الصباح والجوّ معتم ويعودون وما زال معتماً. وتوضح المديرة الطبية لدائرة الطب النفسي في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن، آيدا هاغمان، أنّ "مرض اكتئاب الشتاء مرضٌ حقيقي، وإن كان تشخيصه والاعتراف به يُعتبر حديثاً منذ عام 1984، وهو يتعلّق بقلّة تعرضنا لضوء النهار. فالناس يتأثرون بالضوء من حيث المزاج والنوم والإيقاع اليومي، ولون السماء الزرقاء، التي تغيب خلف الغيوم الداكنة. يؤثر على الناقلات العصبية السيروتونين والميلاتونين في الدماغ". ورغم نصائح سابقة بالتعرض لضوء "نيون" يميل إلى الزرقة للتخفيف من الآثار، ترى هاغمان، أنّ "اعتقاد البعض أنّ الشاشات، سواء الكومبيوترات والهواتف والألواح، يمكن أن يساعد لونها الأزرق في تغيير المزاج أمرٌ خاطئ. فقوة تلك الإضاءة غير كافية مثلما هي الإضاءة الطبيعية التي تحتاجها الأدمغة في عملية الناقلات العصبية للسيروتونين والميلاتونين، وقلتهما هي التي تؤدي إلى ظاهرة اكتئاب الشتاء في الشمال".

قضايا وناس
التحديثات الحية

نصائح دوائر الصحة في دول الشمال، بحسب هاغمان، تقوم على "استغلال كلّ انقشاع للغيوم، للتعرّض لأضواء طبيعية من السماء. ويُمكن لركوب الدراجات الهوائية، وتناول الطعام في الهواء الطلق، واختيار شخص للمشي معه في نزهة في الطبيعة، أن يساعد على التقليل من الأعراض، خصوصاً أنّنا في أوقات لا يسمح فيها وباء كورونا بممارسة ما اعتاد عليه البعض من السفر جنوباً. ويُمكن بدلاً من ذلك ممارسة التزلج على الثلوج في النرويج، بسبب أثر اللون الأبيض في مزاج الناس بدلاً من الركون لغياب الشمس". 
وبالإضافة إلى ما تقدّم، يُنصح بتناول فيتامين "د"، والطعام الصحي، إذ أثبتت الدراسات أنّ الطعام المتنوع يؤثر في مزاج الإنسان، ويخفض شعوره بالاكتئاب الشتوي. كذلك، الخروج إلى الغابات والطبيعة والتأمل والنظر إلى النباتات والأشجار. ويُمكن لعدم القادرين على الخروج أن يستعينوا بالمصابيح الطبية المخصصة، بحسب ما أدلت به هاغمان، ضمن نصائحها التي قدّمتها للتغلّب على أعراض اكتئاب الشتاء، في تلك الدول الأقرب إلى القطب الشمالي.

المساهمون