أم دوَرْوَر

02 نوفمبر 2022
يأكل مما يزرع (أشرف شاذلي/ فرانس برس)
+ الخط -

سخر مُحدّثي من شعار "نأكل مما نزرع" الذي ظلّ يتغنّى به السياسيون في بلادنا لسنوات، قبل أن يُكشف زيف شعاراتهم، ذلك لأن أسلافنا كانوا بالفعل يأكلون مما يزرعون، ويبيعون فائض إنتاجهم في أسواقهم المحلية الأسبوعية، أو يبادلونها بحاجاتهم الأخرى.
حياة متكاملة في تلك الأسواق الجوّالة، والتي تتخذ اسم "أم دَوَرْوَرْ" كناية عن الدوران حول القرى والنجوع، طوال أيام الأسبوع. إذ إنّ لكلّ قرية كبيرة يوماً محدّداً متفقاً عليه، يتجمع فيه الناس من كلّ حدبٍ وصوب، حيث يجدون ما يحتاجونه من سلع وخدمات وأخبار. هناك باعة الخضار والفاكهة والأواني والملابس والأثاث وكل متطلبات حياة أولئك البسطاء التي لا توفرها لهم المزارع والمراعي.
وفي طرف السوق تُنصب موازين المحاصيل والغلال بأنواعها، وفي سوق السوام (البهائم) حركة دائبة بين البيع والشراء والمبادلة، وبين البائع والمشتري يمشي قانون العرض والطلب بما يرضي الطرفين. وفي مكان بارز مجالس الأعيان وأهل الخبرات لتقديم المشورة. وتجد مقدمي الخدمات كالمُزيّن، والمطبّب الشعبي، وصانع المعدات الزراعية. كما أنّ لكلّ سوق شيخاً مسؤولاً عن مراقبة الباعة، وتوزيع المساحات، وحلّ النزاعات إن وجدت.
قبل أكثر من خمسة عقود، كنا في قرانا النيلية نرى تلك الأسواق، بيد أنّها اختفت لتحل محلها الأسواق الثابتة، ولعلّها كثافة السكان، والمسحة المدينية التي قضت بذلك.
ظلّت أسواق "أم دَوَرْوَرْ" تغطي مساحة واسعة من الأرياف السودانية مع تطّور السلع، حتى أنّني وجدت في سوق بعيد في غرب كردفان أجهزة شحن الهواتف النقالة المصنوعة من ألواح الطاقة الشمسية، وإكسسوارات الهواتف، وأنواع من العطور ومستحضرات التجميل، لا تجدها في أسواق المدينة. وفي السوق نفسه، عثرت على بائعة تعرض مختلف أنواع الزيوت المستخلصة من النباتات والبذور في بيئتها، وأفادت بأن إحدى المنظمات العالمية وفرت للنساء في قريتها فرصاً للتدريب للاستفادة من منتجات بيئتهن.
كان يمكن تطوير مثل هذه الصناعات البيئية، وتوسيع مفهوم ذلك الشعار، والاعتراف بأن في الأمر عودة للمعارف المحلية، بعد الاعتراف بإخفاق السياسيين في الحفاظ على ما وجدوه من أنماط حياة. وجاءت سياساتهم وبالاً على الريفيين وأراضيهم وبيئاتهم من جراء تمدد الزراعة الآلية على الغابات والمراعي ومساحات الزراعة المطرية، بل الأودية وقنوات مجاري المياه الطبيعية.
أما المشاريع المروية الكبيرة، والتي أرهقت كاهل الأجيال بديونها، فقد فشلت لأنّها فرضت على الأهالي ولم تجرِ استشارتهم. كما فشلت المصانع المرتبطة بالإنتاج الزراعي، حتى أنّ بعض الأجهزة والمعدات لم تخرج من صناديقها لسنوات طويلة، ما يؤكد فشل دراسات جدواها. لماذا يكتب على الفقراء أن يمشوا على أراضٍ تحمل في باطنها خيراً وفيراً، وحين تستطيع الأيادي أن تصل إليه، فإنّه يذهب بعيداً؟
(متخصص في شؤون البيئة)

المساهمون