لم تفوّت عشرات الأمّهات الفلسطينيات الاحتفال بعيد الأمّ، إنّما فعلنَ ذلك بطريقتهنّ الخاصة وفي الشارع، مساء اليوم الثلاثاء. هؤلاء الأمّهات اجتمعنَ في ميدان المنارة مركز مدينتَي رام الله والبيرة وسط الضفة الغربية، ليطالبنَ بـ"هدية واحدة" تكاد تكون أشبه بـ"أمنية واحدة"، أن يرقد الأبناء الشهداء في قبور يستطعن زيارتها.
عدلة غطاس والدة الشهيد فادي غطاس (19 عاماً) من هؤلاء النساء، وقد حضرت من مخيّم الدهيشة للاجئين في بيت لحم جنوبيّ الضفة الغربية. هذه المرّة الأولى التي يحلّ فيه عليها عيد الأمّ بعد استشهاد ابنها في سبتمبر/ أيلول من عام 2022، وقد أعدمه جنود الاحتلال بالقرب من بيت عينون شمال الخليل جنوبيّ الضفة الغربية، بزعم محاولته تنفيذ عملية طعن. ومنذ ذلك الحين يُحتجَز جثمانه في ثلاجات الاحتلال.
تصف عدلة لـ"العربي الجديد" معنى عيد الأمّ بالنسبة إلى والدة شهيد يحتجز الاحتلال الإسرائيلي جثمانه، وتخبر أنّها كانت تنتظر في كلّ عام هدية فادي لها مثلما تنتظر الأمّهات جميعهنّ احتفال أبنائهنّ بهنّ واحتفالهنّ بهدايا هؤلاء الأبناء. وتقول: "كان فادي يقدّم لي هدية في كلّ عام، لكنّني هذا العام، أريد أنا إحضار الهدية". هي تريد لنفسها "تسلّم جثمان ابني. وهذه ستكون الهدية الأجمل التي أنتظرها منذ أكثر من ستة أشهر". تضيف غطاس: "أحياناً أنظر إلى الأمّهات الفلسطينيات، وأقول أنا ما زلت بألف خير. فثمّة أمّهات استشهد لهنّ أكثر من ابن (...) لكنّني في الوقت نفسه أحسدهنّ، إذ هنّ استطعنَ وداع أبنائهنّ ودفنهم".
وتشير غطاس إلى أنّها تنتظر اليوم الذي ستودّع فيه ابنها للمرّة الأخيرة، وتكرّر أنّ "ذلك هو الهدية الفضلى بالنسبة إليّ". فهي حين كانت ترغب في مجالسة ابنها، كانت تذهب إلى غرفته مثلاً وتوقظه من النوم وتتحدث إليه. وبالنسبة إليها، سيكون القبر كما غرفته، بالتالي تقصده كلّما اشتاقت إلى فادي. ولا تخفي عدلة أنّها تتردّد إلى المقبرة، وتنظر إلى القبور وتتساءل عن قبر ابنها.
وعدلة غطاس، أمّ فادي، بوجعها كلّه، هي التي ألقت كلمة أمّهات الشهداء في هذا التحرّك تحت عنوان "بيان صرخة أمّ". وقالت إنّ أمّ الشهيد الفلسطيني المحتجزة جثّته لا تقوى على فتح ثلاجة المنزل، إذ تذكّرها بثلاجة الموتى حيث يرقد ابنها. تضيف في الكلمة نفسها: "نحن أمّهات الشهداء المحتجزة جثامينهم، نمضي هذا اليوم وكلّ يوم ونحن نجلس على حافة القبر المفتوح نحلم بامتلاء هذا القبر بجثمان ابننا المحتجز، ونتوق إلى اللحظة التي نقبّل فيها جبين هذا الجثمان المتجمّد، ونرنو إلى السماء وندعو الله أن يطيل من أعمارنا كي نفرح بحمل نعشه على أكتافنا المتعبة، ونودّع جثمانه إلى التراب الدافئ، ونزرع على قبره شتلات من الياسمين والحنون نرويها بدموعنا".
بدورها، شاركت سهير البرغوثي، والدة الشهيد صالح البرغوثي، والأسير عاصم البرغوثي في هذا التحرّك. هي قدمت من بلدة كوبر شمال غرب رام الله، فوجدت هدية تنتظرها أحضرها أحد الشبان، وهي لوحة تحمل صور نجلَيها وزوجها الراحل المناضل عمر البرغوثي إلى جانب شعارات وطنية. وتقول لـ"العربي الجديد" إنّها سعدت بتلك الهدية.
لكنّ سهير تشير إلى أنّ "والدة الشهيد والأسير تتألّم وتفتقدهما في هذا العيد. لكنّ تلك الوالدة كذلك، في كلّ يوم يمرّ عليها، ترغب في رؤيته، وفي أن يُدفَن في قبر تستطيع زيارته، وقد عرفت أين هو". وتخبر أنّ عائلتها لم ترَ جثمان ابنها صالح الذي اغتالته قوات الاحتلال في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2018، ولا تعرف أيّ معلومات عن مكان احتجازه؛ هل هو في الثلاجات أم في مقابر الأرقام؟ وترى سهير أنّ هذا الوضع يهدف إلى "كسر العائلة وإذلالها". لكنّها تصرّ: "لن يذلّونا، ولن يكسروا رؤوسنا".
وتتذكّر سهير ابنها صالح وروح فكاهته، خصوصاً في المناسبات من قبيل عيد الأمّ. وتقول: "لم يكن ينسى قطّ إحضار هدية لي في مثل هذه المناسبة، فيما يرقص فرحاً وهو يقدّمها".
قصّتان من قصص 133 أمّاً ما زال الاحتلال يحتجز جثامين أبنائهنّ، منذ أعاد العمل بسياسة احتجاز الجثامين عقاباً للأهالي في عام 2015. لكنّ الشهداء الـ133 ليسوا كلّ الشهداء المحتجزين، فالاحتلال يحتجز كذلك 256 جثمان شهيد في مقابر الأرقام، منذ ما قبل ذلك التاريخ.
وتقول الأمّهات المشاركات في التحرّك، في بيانهنّ، إنهنّ "يصرخنَ صرخة حقّ في وجه الاحتلال الذي لا يسمع، والعالم الذي يتعامل بمعايير مزدوجة، ويؤكّدنَ للقيادة السياسية الفلسطينية والمنظمات والتنظيمات والحركات والنقابات أنّ أمومتهنّ ناقصة وهي لا تكتمل إلا بوفاء الأمّ تجاه ابنها؛ بأن تذيب عنه وعن قلبها الصقيع، وأن تدفنه في دفء التراب، وتزرع على حافة القبر وردة ترويها بقطرة ماء وجدول من الدموع".
تجدر الإشارة إلى أنّ الاحتلال لا يتعامل بمعايير واضحة في ما يخصّ تسليم جثامين الشهداء، بحسب ما تفيد الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء والكشف عن مصير المفقودين. وبخلاف ذلك، هو يلجأ إلى كلّ العراقيل الممكنة في إطار عمليات التسليم، وأبرزها إغلاق المسارات القضائية في محاكم الاحتلال بكلّ مستوياتها.