في حيّ كارت إي ناو بالعاصمة الأفغانية كابول، يبيع امتياز مهمند البطيخ لكسب قوته. والشاب الأفغاني، البالغ من العمر 19 عاماً، يستخدم لذلك درّاجة نارية ذات عجلات ثلاث، ولا يخفي أنّه لم يستكمل تعليمه، إذ توقّف عنه وهو في الصف السابع بعدما اضطر إلى العمل للمساعدة في إعالة أسرته المكوّنة من 13 فرداً.
ويشكو الشاب من أنّه تعرّض إلى السرقة مرّتَين، فأُخذ في كلتيهما هاتفه المحمول ومبلغ ضئيل من المال كان قد جناه في عمله.
يخبر مهمند أنّه سوف يغادر البلاد في غضون أربعة أيام مع أربعة من أصدقائه. هم دفعوا مبالغ مالية لمهرّب حتى يساعدهم في التسلل عبر الحدود إلى إيران وتركيا. ويشير إلى أنّ سبعة أصدقاء آخرين هم في طريقهم إلى تركيا الآن. ويبرّر ذلك بالقول: "لا تتوفّر وظائف هنا ولا أمن. اللصوص في كلّ مكان. وأنا حاولت كسب لقمة عيشي لكنّني لم أتمكّن من ذلك".
وإحباط مهمند وقلقه يتكرران في أفغانستان اليوم، في وقت يشهد فيه الأفغان الانسحاب النهائي للجيش الأميركي وحلفائه في "الناتو".
وكان الرئيس الأميركي جو بايدن قد صرّح بأنّ الولايات المتحدة الأميركية أنهت ما أتت لتفعله في أفغانستان، أي ملاحقة ومعاقبة تنظيم "القاعدة" الذي يتحمّل مسؤولية هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001. فبعد نحو 20 عاماً، قال بايدن إنّ الوقت قد حان لإنهاء "الحرب الأبدية" الأميركية.
بالنسبة إلى أفغان كثيرين، فإنّ قوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية تترك البلاد في حالة فقر مدقع، وعلى شفا حرب أهلية أخرى، ووسط فوضى متفاقمة تخيف بعض الناس أكثر من حركة "طالبان".
وأمراء الحرب، الذين عقد التحالف شراكة معهم للإطاحة بحركة "طالبان"، يعيدون إحياء مليشيات لها تاريخ من العنف المدمّر.
ومنذ الإعلان عن الانسحاب النهائي لقوات التحالف الدولي، قُدّمت آلاف طلبات تأشيرات السفر إلى السفارة التركية في كابول، فيما أبلغت سفارات أخرى عن زيادة كبيرة كذلك. ويمكن للمراقب أن يلاحظ أمام مركز التأشيرات التركية، في وسط العاصمة، ازدحاماً تتسبّب فيه مركبات أثرياءٍ يبحثون عن تأشيرات للمغادرة.
يقول الأستاذ الجامعي عبد الله سعيد، المحاضر في جامعة بوليتكنيك في كابول، إنّ "شعبنا يظنّ أنّ حرباً أهلية سوف تندلع، وهذه هي المشكلة الرئيسية التي تجعل الناس راغبين في السفر إلى الخارج". يضيف "أحزابنا السياسية كلها تحصل على أسلحة، وكلّ شخص يملك سلاحاً هنا. لذا الناس خائفون".
ولا شكّ في أنّ إغلاق بعض السفارات الغربية وتوجيه أخرى رعاياها إلى المغادرة من شأنهما أن يعمّقا الشعور بالرهبة. وبينما يختار بعض الأفغان المغادرة بشكل قانوني أو غير قانوني، يعمد آخرون إلى جعل أسرهم تستقرّ في الخارج، فيما يواصلون هم العمل في أفغانستان.
وأمام مكتب جوازات السفر الأفغاني، يصطف آلاف من المواطنين الراغبين في الحصول على جواز سفر جديد، ربّما بهدف المغادرة، إذ إنّهم في حالة من عدم اليقين بشأن ما يحمله الغد.
سالية صديقي واحدة من هؤلاء، وقد جلست تحت شجرة مع ثلاثة من أطفالها السبعة. هي تنتظر تقديم أوراقها للحصول على جوازات لأفراد عائلتها، على الرغم من أنّها غير متأكدة من إمكانية السفر أو كيفية تحمّل تكاليفه. وتقول: "الأمن غير متوفّر في أيّ مكان، ولا يمكن الانتقال إلى الأقاليم". تضيف: "الأمر لا يتعلق بي"، متسائلة "ماذا عن أطفالي؟". وتتابع: "لا أعرف إذا كان لهم مستقبل هنا. نظنّ أنّ ثمّة عنفاً محتملاً، وسوف يكون الوضع مظلماً".
في هذا الإطار، يقول المؤسس والرئيس التنفيذي لمعهد دراسات الحرب والسلام في كابول تميم عاصي إنّ "عدوّنا الأكبر هو عدم اليقين. ليس الأمر أنّنا لسنا مزوّدين بالأمل... ليس الأمر أنّنا لا نملك القدرة على صياغة أو إنشاء رؤية للبلاد في غياب المجتمع الدولي... بل إنّها تلك السحابة القاتمة من عدم اليقين في الأفق".
وتبدو أفغانستان مختلفة بشكل كبير عمّا كانت عليه في عام 2001، فثمّة شبكة إنترنت، والناس بمعظمهم يملكون هواتف محمولة، والنساء من بين القوى العاملة، ومدارس الفتيان والفتيات مفتوحة. لكنّه على الرغم من ذلك، فإنّ الأفغان الذين لا يستطيعون سوى تحمّل تكاليف المدارس العامة بمعظمهم، يشكون من نقص المعلّمين المؤهّلين واللوازم، وحتى المباني.
من جهتها، تشجّع حركة "طالبان" الأفغان على عدم المغادرة، وتعدهم بأنّه ليس لديهم ما يخشونه. لكنّ كثيرين لا يرون إلا مستقبلاً قاتماً.
من جهة أخرى، تُعَدّ أفغانستان واحدة من أكثر دول العالم فساداً، وفقاً لمنظمة "الشفافية الدولية"، وقيادتها السياسية منقسمة بعمق وتتنازع على كلّ شيء تقريباً. ولدى كثيرين من الأفغان الذين يُصنَّفون من النخبة، أو هم في القيادة السياسية في البلاد، جوازات سفر غير أفغانية، وتعيش عائلاتهم في الخارج في أغلب الأحيان. ويقول عاصي: "هم مزدوجو الجنسية. يقومون بأعمالهم هنا، سواء أكانت في الحكومة أم خارجها، ولا يعبأون بالدماء والثروات في هذا البلد".
تُقدَّر نسبة البطالة رسمياً بنحو 35 في المائة، ومن المحتمل أن تكون أعلى من ذلك. ويشير عاصي إلى أنّه "بالكاد يجد 13 في المائة من مئات آلاف خريجي الجامعات الجدد وظائف في كل عام".
يُذكر أنّه وفقاً للبنك الدولي، فإنّ 54 في المائة من السكان يعيشون تحت خط الفقر ويكسبون أقلّ من 1.9 دولار أميركي في اليوم.
ويلقي الأفغان بمعظمهم اللوم على السياسيين والمسؤولين الفاسدين الذين يعيشون بمعظمهم في حيّ شايربور الراقي في كابول. هناك، تكثر القصور الرخامية المؤلّفة من خمس طبقات أو ستّ، علماً أنّ عدداً كبيراً منها محميّ بحواجز وحراس مدججين بالسلاح.
يُذكر أنّ المنطقة، ولعقود من الزمان، كانت مأهولة من قبل أفقر سكان المدينة الذين يعيشون في منازل جد متواضعة، حتى أتى الأثرياء وطردوهم.
بالنسبة إلى غلام فاروق، الذي يعمل في متجر صغير تملكه عائلته خاص بالأعمال الخشبية: "كان لدينا أمل في ظلّ كلّ نظام، لكنّ كلّ نظام خيّب أملنا... حتى الأجانب". يضيف أنّ "الناس يفرّون عبر كلّ الحدود. فقط أولئك الذين لا يملكون مالاً ولا وسيلة لذلك سوف يبقون هنا كما كانوا دائماً... وسوف يعانون".
(أسوشييتد برس)