يتجوّل الطفل رائد العمران في مخيم أطمة، يحمل بسطة "كعك" منذ الصباح حتى يبيع آخر قطعة لديه، تارة يجلس وأخرى يسير. هكذا يُمضي يومه بعيداً عن مقاعد الدراسة منذ نزوحه من بلدته في ريف إدلب الجنوبي شمال غربي سورية، حاله حال كثير من الأطفال الذين أجبرتهم الظروف المعيشية على العمل لمساعدة عوائلهم.
رائد العمران، الذي يبلغ من العمر 11 عاماً، يقول إنه لم يلتحق بأي مدرسة حتى الآن، فمنذ نزوحهم عن بلدتهم حزارين بريف إدلب الجنوبي منذ قرابة 5 سنوات وهو يتنقل من مخيم إلى آخر بصحبة والديه وإخوته الأربعة. وأوضح أنه يجمع ما يربحه بشكل يومي لجلب الخبز لأهله، أو الدواء لوالده المريض بالقلب، ورغم ساعات عمله الطويلة والجهد الكبير الذي يبذله لبيع ما لديه، فهو لا ينوي ترك العمل والالتحاق بالمدرسة، فوضع عائلته السيئ لا يجعله يفكر سوى بتأمين قوت يومهم.
الحال ذاته ينطبق على الطفل لؤي الحسون، البالغ من العمر 10 سنوات، والذي أجبرته ظروف النزوح والتنقل من مكان لآخر على التسرب من المدرسة، والالتحاق بإحدى ورشات النجارة بمدينة سرمدا. يقول: "توفي والدي بالقصف على مدينتي معرة النعمان، ووالدتي تعمل بتدوير الملابس، وأنا أجاهد لتعلم مهنة وجمع بعض المال للمساعدة في تأمين بعض النفقات".
لا يخفي لؤي رغبته الكبيرة بالعودة إلى المدرسة وتعلم القراءة والكتابة والحساب، غير أن إمكانيات والدته الضعيفة تمنعه من تحقيق هذا الحق الذي بات بالنسبة له بعيد المنال.
أما الطفل عامر (12 عاماً) فيعمل في ورشة لصيانة الدراجات النارية في مدينة الدانا منذ سنتين، وأهله نازحون يقيمون بمخيم قريب. وذكر الطفل أنه لم يكن يملك خيار البقاء في المدرسة والتعلم، مضيفاً لـ"العربي الجديد": "نحن فقراء، ليس لدينا شيء هنا في ريف إدلب، أعمل وأبي وشقيقي الأكبر لنؤمن مصروف العائلة"، لافتاً إلى أنه أيضاً يحبّ الدراجات النارية كثيراً، ويشاهد أحياناً مقاطع كيفية إصلاحها على اليوتيوب، ويحلم بامتلاك واحدة كبيرة.
ولا يقتصر التسرب المدرسي على الأطفال الذكور، فهناك إناث أيضاً انقطعن عن الدراسة بسبب الظروف الصعبة، وهنّ محرومات من التعليم، لافتقارهن إلى الإمكانيات المادية لشراء الحقائب والقرطاسية، وفق حديث الطفلة لمى الشموخ، البالغة من العمر 8 سنوات، لـ"العربي الجديد".
وكانت الطفلة لمى تقصد المدرسة القريبة من مخيمهم بلا حقيبة أو حتى دفتر وقلم، ما كان يتسبب في توبيخها من المعلمات وتنبيهها بعدم العودة للمدرسة بلا قرطاسية، في المقابل كان والدها عاجزاً عن تأمينها لفقره وضيق حاله، مما دفعها إلى عدم العودة إليها.
النازحة فاديا المجدي (35 عاماً) تقول لـ"العربي الجديد" إنه يحزّ في نفسها عدم إرسال أبنائها إلى المدارس، بسبب بُعدها عن المخيم الذي يقيمون فيه على أطراف مدينة الدانا، وقلة إمكانياتها المادية التي تمنعها من تسجيلهم في مدارس خاصة تعمل على تأمين وسائل النقل لطلابها. ودعت إلى افتتاح مدارس في المخيمات العشوائية وتأمين القرطاسية والكتب بشكل مجاني، ما يسمح للكثيرين بالحصول على حقهم في التعليم، في ظل الفقر والنزوح وقلة الدخل.
من جهته، تحدث المدرس علي عبد الباقي عن عمالة الأطفال في مناطق شمال سورية. وقال لـ"العربي الجديد": "اليوم نحن أمام مشكلة التسرب المدرسي، ومن غير الممكن الذهاب لعائلة معدمة وإجبارها على إلحاق طفلها بالمدرسة، فهذا الحل غير واقعي، لكن يمكن اللجوء إلى حلول أكثر فاعلية، منها إجراء خطة لتعليم الأطفال ولو بشكل محدود على مدار الأسبوع، أو العمل على تطوير القطاع المهني، فهناك دول تتبع نموذج الدراسة والعمل، ويمكن العمل على تخصصات لعمل الأطفال، وحصر دراستهم بها لإبقاء الإمكانيات مفتوحة أمامهم، فقد يصلوا لمرحلة تعليم متوسط (معهد) في الميكانيك أو غيره من المجالات، من خلال الدراسة والعمل، وهذا يجب العمل عليه من منظور بعيد".
لكن بعض النازحين في المخيمات لديهم وجهات نظر مختلفة حول تسرب الأطفال من المدارس، مدفوعة بالواقع السيئ، ومنهم سعيد أبو يامن، الذي أوضح خلال حديثه لـ"العربي الجديد" أن الحرمان من الاستقرار وأدنى مقومات الحياة، في مقدمتها الطعام، هو ما يدفع الأهالي لإرسال أبنائهم للعمل، مضيفاً: "لا يوجد أب أو أم في العالم يرضيان بترك أبنائهم التعليم، لكن الظرف قاهر"، متسائلاً: "كيف يمكن لطفل جائع أو لا يملك حذاء أن يذهب للمدرسة؟ من حق الطفل أن يتعلم، لكن وضع الأهل والواقع أصعب".
ومع بداية افتتاح المدارس في إدلب وشمال غربي سورية، وأثناء ساعات وجود التلاميذ في المدارس، لا يزال الكثير من الأطفال المنقطعين عن الدراسة والمتسربين يجوبون المخيمات بلا دراسة أو تعليم، وكل همهم التخلص من الفقر والحصول على عمل أو أجر يومي حتى إن كان بجمع النفايات أو أجير بإحدى الورش الصناعية.
وكشف فريق "منسقو استجابة سورية" أنّ عدد الأطفال المتسربين من التعليم في مناطق شمال غربي سورية فقط وصل إلى 318 ألف شخص. واستعرض في تقرير بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة عمل الأطفال، الذي يوافق 12 يونيو/حزيران، الأسباب وراء اتساع ظاهرة التسرب المدرسي، ومن بينها قلة عدد المدارس مقارنة بالكثافة السكانية، والاتجاه نحو التعليم الخاص، والأوضاع الاقتصادية الصعبة، وغياب التشريعات من السلطات المحلية لمنع ولوج الأطفال سوق العمل، وغياب الحد الأدنى للعمر القانوني، بالإضافة لاستمرار موجات النزوح والتهجير، مع اعتبار التعليم قطاعاً مُهمشاً من قبل المنظمات الإنسانية المحلية والدولية، وغياب الدعم الكافي لهذا القطاع.