خلَّف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة المئات من ذوي الأعضاء المبتورة، ما بين خسارة أطراف علوية أو سفلية وأحياناً كليهما، ومن بينهم من تم إجراء عمليات جراحية لهم تعتبر من بين الأصعب في تاريخ العلاج الطبي في قطاع غزة، كونها جراحات اضطرارية من دون توفر المعدات الطبية، وأحيانا من دون تخدير، وكانت العمليات تجرى بصورة سريعة من أجل عدم الإضرار بباقي أعضاء الجسم.
ويحرم الغزيون المصابون من الرعاية الصحية الضرورية، وكذا من غالبية أصناف الأدوية، بينما معاناة من خسروا أطرافهم أكبر بسبب عدم توفر العلاجات اللازمة لإصاباتهم، ما ساهم بتفاقم الالتهابات. يعاني أحمد أبو هلال (31 سنة) من التهابات شديدة نتيجة إصابة في ساقه اليمنى وإصابات في الكتف، وحروق من الدرجة الثانية تعرض لها بعد تسرب الوقود نتيجة القصف الذي طاول منزله في حي الشيخ رضوان، ما تسبب في انفجار وحريق لاحق.
نجا أبو هلال بأعجوبة من الموت بعد أن أنقذه الدفاع المدني، لكنه يعاني من حروق في صدره ظهره وجزء من وجهه أصابته بتشوهات، وكان من ضمن الحالات الصعبة التي تحتاج إلى كميات كبيرة من الادوية المسكنة والمضادات الحيوية والمعقمات، لكن نقص المستلزمات والأدوية كبير، ما تركه يصرخ طوال الوقت بسبب الآلام. خضع أحمد لعملية جراحية داخل مجمع ناصر الطبي في 13 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وخلالها قرر الأطباء بتر ساقه بسبب الالتهابات الشديدة فيها، والتي وصلت إلى منطقة الركبة، وكانت هناك مخاطر من تمددها إلى الجزء العلوي من الساق. لكن العملية جرت من دون تخدير، فظل ليومين غائباً عن الوعي.
يقول شقيقه الأصغر إيهاب أبو هلال لـ"العربي الجديد": "حتى اللحظات الأخيرة قبل العملية كنا نأمل أن يتم توفير المخدر. طلب منا الأطباء محاولة تأمين المخدر، وكنا نبحث عنه في كل مكان، لكن من دون نتيجة، فلا شيء متوفر في قطاع غزة، وكان البديل أن ينتظر ضمن أعداد كبيرة ينتظرون السفر إلى الخارج لإجراء العملية، وانتظر شقيقي لأسبوعين الموافقة على خروجه للعلاج في مصر، لكن حالته كانت لا تحتمل المزيد من التأخير، فقرر الأطباء بتر ساقه من دون مخدر، وهو يعاني حالياً من آثار نفسية عنيفة، ومؤخراً أصبح يحصل على أنواع من المسكنات التي وصلت عبر المساعدات، وأصناف مراهم قليلة لعلاج الحروق".
الآلية المتبعة لعلاج جرحى غزة في الخارج تؤدي إلى ضياع فرص إنقاذهم
وأجريت داخل مستشفى شهداء الأقصى في وسط قطاع غزة العديد من العمليات الصعبة بالنسبة للطواقم الطبية، إحداها للطفلة ندى أسامة (8 سنوات)، والتي تم بتر يدها اليمنى في 20 ديسمبر الماضي من دون استخدام المخدر. حصلت ندى على بعض الأدوية المسكنة التي أحضرها الأطباء بصعوبة، والتي تم وضعها في المحلول الملحي لتخفيف بعض الآلام، لكنها بحاجة إلى مسكنات أقوى.
يقول والدها أسامة حسنين لـ"العربي الجديد": "نجت طفلتي من الموت بعد تدمير المبنى الذي نزحنا إليه في مخيم النصيرات، لكنها أصيب في القصف، وكانت بحاجة إلى جراحة عاجلة لبتر يدها. ممرضات المستشفى كن يبكين عند مشاهدة ندى تتألم، طفلتي صاحبة الضحكة الجميلة البريئة كانت الرابعة التي يتم بتر أحد أطرافها في المستشفى من دون مخدر، ومن دون حتى أن يتوفر لها العلاج اللازم، وقد انتظر الأطباء ليومين على أمل توفير المخدر، أو حتى قدر منه، لكنهم اضطروا في النهاية إلى إجراء الجراحة".
يضيف حسنين: "تخضع ندى حالياً للعلاج عبر بعض المسكنات والمضادات الحيوية المتوفرة، لكنها تحتاج إلى أكثر من المتوفر كما يؤكد الأطباء، ويحاول الطاقم الطبي منحها الدعم النفسي، وكذلك يأتي بعض المتطوعين إلى المستشفى لدعم الأطفال المرضى، وشعرت بسعادة غامرة عندما استفاقت من الغيبوبة، وضحكت للمرة الأولى منذ فترة طويلة، وبدأت تتحدث معي رغم آلامها".
في المقابل، حصلت الطفلة كنزي المدهون (5 سنوات) على فرصة للعلاج في تركيا بعد انتظار دام نحو شهر رفقة والدها آدم المدهون في مصر. كانت المدهون من أوائل الأطفال الذين تعرضوا لعمليات البتر، وهي تخضع حالياً لعدد من العمليات الجراحية التكميلية، وأصبحت تستطيع التمييز، وباتت تتحدث بعد شهر من العلاج المكثف.
يقول آدم المدهون لـ"العربي الجديد": "تضررت يدها اليمنى حتى منطقة الكتف أثناء القصف، وأصيبت بكسر في الجمجمة، وكسر في الحوض وكسور في الساق، وأجريت لها عملية في المثانة، وعمليات لوضع بلاتين خارجي وتركيب بلاتين داخلي للعظام، ومازالت تخضع لتدخلات جراحية في الرأس لأن العظم مكشوف، وهي بحاجة لعدة عمليات جراحية إضافية. مع قلة العلاج في القطاع، كانت كنزي محظوظة لأنها حصلت على مخدر قبل عملية البتر، وغيرها من الأطفال جرى بتر أطرافهم من دون مخدر".
يضيف: "كانت طفلتي تحب الغناء والرقص وتمارس رياضة الكاراتيه، وكان يمكنها فتح الحوض. لن أستسلم أمام ما حدث لطفلتي، وأتمنى أن تصبح كنزي مثالاً للأطفال الذين يواجهون ظروف الإعاقة بعد البتر بكل قوة وتحد".
وحسب بيانات وزارة الصحة في غزة، تم إجراء أكثر من 150 حالة بتر لمصابين في مستشفيات القطاع، وتوقعت الوزارة أن تزداد الأعداد خلال الأيام المقبلة، إذ تتضمن قاعدة بيانات الوزارة أسماء كثير من الحالات الخطرة التي قد يضطر الأطباء فيها إلى اللجوء إلى البتر كحل أخير، من بينها حالات مستعجلة لازالت تنتظر موافقات العلاج في الخارج.
تشير وزارة الصحة إلى أن غالبية أصحاب حالات بتر الأطراف تم عمل تحويلات طبية لهم لعدم توفر الإمكانات لإجراء تلك العمليات في قطاع غزة، لكنهم جزء من أعداد كبيرة بحاجة إلى العلاج في الخارج بشكلٍ طارئ، ومن ضمن نحو 6000 جريح تم تصنيف حالاتهم كأولوية عاجلة للعلاج من أجل إنقاذ حياتهم، بينما لم يغادر للعلاج منذ نهاية أكتوبر/تشرين الأول حتى الرابع من يناير/كانون الثاني، سوى 645 جريحاً فقط، من بينهم أطفال وبالغون تعرضوا لبتر الأطراف، وكانوا بحاجة إلى عمليات تكميلية عاجلة.
حالات خطرة عدة سيضطر أطباء غزة فيها إلى اللجوء إلى بتر الأطراف
ويؤكد المتحدث باسم وزارة الصحة في قطاع غزة، أشرف القدرة، إن المعدات والمستلزمات الطبية والأدوية، وحتى المعقمات ووسائل التخدير التي تدخل إلى القطاع لا تلبي الحاجة القائمة، ويشدد على أن الأوضاع تزداد صعوبة على الطواقم الطبية بعد نزوح أكثر من نصف سكان قطاع غزة إلى مدينة رفح في ظل ظروف قاسية من انهيار الخدمات الصحية والبيئية، وعدم توفر ادنى مقومات المعيشة.
ويقول القدرة لـ"العربي الجديد": "الآلية المتبعة لخروج الجرحى تؤدي إلى قتل المئات، وضياع فرص إنقاذ أطراف كثير من المصابين، فهم ينتظرون لأسابيع قبل الحصول على الموافقات، وعدد الجرحى الذين غادروا للعلاج في الخارج محدود للغاية، ولا يتجاوز 10 في المائة من المحتاجين للعلاج العاجل، وهذا المستوى المتدني من الاستجابة الصحية هو سلاح إسرائيلي يستخدم بحق مرضانا، فالاحتلال مستفيد من قتل المزيد، وبتر الأطراف، وزيادة نسبة الإعاقة بين سكان غزة".
أجرى طبيب العظام جواد ديب العديد من العمليات الجراحية، والتدخلات العاجلة لمصابين في قطاع غزة، ويوضح أن حالات البتر متزايدة بسبب استخدام الاحتلال أسلحة محرمة دولياً، تتسبب في تفتت العظام وخلايا الجسم من شدة الانفجارات الحاصلة في المباني.
ويؤكد الطبيب ديب لـ"العربي الجديد"، أن "عددا كبيرا من أصناف الأدوية الضرورية لا يتوفر في قطاع غزة، ومن ضمنها أدوية الطوارئ، وأدوية غرف العمليات، والمرضى من أصحاب حالات العظام الصعبة يحتاجون إلى العمليات الجراحية، والتي يتم استخدام المتاح فيها، وهو أقل مما تتطلبه اي حالة مرضية، وبالتالي فإن العلاج في خارج القطاع هو الحل الوحيد، وفي حال عدم تحويل المصابين الغزيين للعلاج في الخارج ستكون هناك حالات بتر جديدة في مستشفيات القطاع".
ويضيف: "المرضى بحاجة إلى العلاجات الأساسية، مثل المضادات الحيوية والمسكنات، من أجل إتمام المرحلة الأولى من العلاج الذي يتم فيه القضاء على أي التهابات جانبية أو داخلية، وهم في نفس الوقت بحاجة إلى أدوية مقوية، ومعقمات ومطهرات تستخدم بشكل يومي، إضافة إلى أدوية إعادة تماسك العظام، والأدوية الخاصة بالأعصاب، وجميعها غير متوفرة في مستشفيات القطاع رغم الحاجة لها بشكل أساسي".