استمع إلى الملخص
- تحولت قصتها إلى رمز للألم والفقدان في غزة، حيث تسلط كتاباتها الضوء على الجرائم ضد الأطفال وتعكس الواقع المرير للحياة تحت الاحتلال.
- بالرغم من المعاناة، تواصل آلاء، حاملة شهادة الدكتوراه والحائزة على جوائز شعرية، مشوارها في التعبير عن معاناة شعبها وتبقى مثالاً على الصمود والمقاومة من خلال الكلمة.
لا يمكن للشعر التعبير عن الوجع الذي عاشته الشاعرة الفلسطينية آلاء القطراوي، هي التي استشهد أطفالها الأربعة وبقيت جثثهم في المنزل أربعة أشهر.
كيف تدفن الأمهات شعور الوحدة وقد كانت تملأ حياتهن انعكاسات ضحكات أطفالهن وشقاوتهم؟ أي أم تلك التي سكبت الدمع دماً وكتبته شعراً ونثراً ثم بكت وحاولت طي السنوات علّها تقرب المسافات؟ فقد الكثيرون في قطاع غزة فلذات أكبادهم. ذاك سقطت أسقف البيت على بناته الثلاث البريئات اللواتي لم يقترفن ذنباً، وتلك لم تستطع أن تجمع أشلاء فتاها الجميل وبكرها المدللة ورضيعها الغض واحترقت أكفها صارخة أي جبن يجعل القاتل يغتال ربيع أطفالنا؟
مآسي غزة تتلون بالدم، ومأساة شاعرة فلسطين د. آلاء القطراوي تلوّن صفحات الكتب ودواوين الشعر سواداً حين تذكر طفلها يداعب مفاتيح البيانو، وضحكات طفلتها تدعوها إلى تسجيل كل حركاتها الطفولية بالصوت والصورة، وكأن تلك الفيديوهات القصيرة لفتاتها شاهدة على جريمة القتل، بل جرائم الإبادة الجماعية. آلاف الأطفال لم تكن مبررات سحقهم سوى سادية سوداء شربت حتى ارتوت من دماء أطفال غزة.
الشاعرة الفلسطينية الحاصلة على العديد من الجوائز في الشعر العربي تثبت بالصورة والكلمة الجريمة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق أطفالها الأربعة، فتقول: "في الصورة طفلتي أوركيدا وقد حاصرها الاحتلال برفقة إخوتها يامن وكنان وكرمل ومنعهم من الخروج من المنزل ثم قصف المنزل عليهم ومنعنا من الوصول إليهم مدة أربعة أشهر". هذه الأشهر الأربعة ترتقي فيها الأرواح ويتآكل الجسد منتظراً الدفن، فتقف كل أبجديات الكون عاجزة عن تحمل مشهد تحلل الجثامين المباركة وقد منع الاحتلال تقدم آليات ومنقذين وجهود رفع الركام... جرائم متراكمة بعضها فوق بعض. يحرم الجريح من الإغاثة ثم يحرم من الدفن شهيداً.
القطراوي في العقد الثالث من العمر، وقد بدأت بكتابة الخواطر منذ المدرسة الابتدائية، ثم تعمقت فى الشعر، وأصدرت ديواناً شعرياً عام 2012 وهي معلمة في مدارس وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، كرّمت في مسابقة أمير الشعراء في عام 2017 بصفتها شاعرة فلسطينية متميزة حصلت على جوائز عديدة منها جائزة فلسطين للإبداع الشبابي، والوسام الذهبي في أفضل مجموعة شعرية عام 2011، وجائزة أفضل قصيدة شعرية في فلسطين "عاشقة الصحراء" عام 2017، وكُرّمت من وزارة شؤون المرأة بصفتها سيدة فلسطينية متميزة في مجال الشعر عام 2018.
في جسد آلاء الغزية الحاصلة على شهادة الدكتوراه في النقد والأدب العربي خيط رفيع يذكّرها بأنها أنجبت أربعة أطفال رائعين ولداً وبنتاً وتوءمين ولداً وبنتاً، لتبقى وحيدة مع هذا الخيط الرفيع. ففي غزة، فقدت كثيرات كلّ شيء حتى الذاكرة والذكريات والصور.
وعن جريمة قتل أطفالها، تقول آلاء لـ "العربي الجديد": "بدأت المأساة عند اجتياح الاحتلال الإسرائيلي مدينة خانيونس في الأول من ديسمبر/ كانون الأول 2023، إذ يقع منزل أطفالي في الشطر الشرقي وهي منطقة في بداية خانيونس. حاصر مائة جندي المنزل ثم دخلوا عليهم البيت فاعتقلوا من كان موجوداً من الرجال وسرقوا نقود النساء وذهبهن، ثم أمروا بتفتيش الموجودين وسحب جميع أجهزة الهواتف المحمولة منهم وحتى قوابس الشحن الخاصة بها، بقي هاتف واحد كان مخفياً لم يلحظه جنود الاحتلال، طلبوا منهم أن يسمحوا لهم بالخروج، لكن الاحتلال رفض خروجهم من المنزل وأبقاهم محاصرين".
هاتفها طفلها يامن البالغ من العمر ثماني سنوات فقط، كانت مكالمة خفية وقال لها إن جنود الاحتلال الإسرائيلي الذين حاصروا المنزل فجروا جميع أنابيب الغاز الموجودة في المنزل وخزانات المياه وكسروا كل محتوياته، ثم انتشرت الجرافات والدبابات حولهم وهدمت سور المنزل وأجزاءً منه. فيما راسلتها قريبتها امتنان: "نحن نموت... إنهم يدفنوننا أحياء ويقومون بتجريف المنزل فوقنا". سارعت القطراوي إلى إرسال رسائل استغاثة وطلب النجدة لإنقاذ أطفالها وبقية أفراد الأسرة. تواصلت مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر وأكدت لهم أن أطفالها الأربعة موجودون مع جدتهم وعمهم وزوجة عمهم في المنزل، ولكن ردهم كان سلبياً واصفة إياه بأنه كان في منتهى السوء، ولم يفعل شيئاً متذرعاً أنّ الاحتلال يرفض التنسيق معه، لتحاول مناشدة مسؤولين في وكالة أونروا والكثير من المؤسسات والهيئات الدولية والمحلية، لكن من دون جدوى.
في الثالث عشر من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وبعد أيام من حصارهم، نجح الاتصال بطفلها يامن الذي قال لها: "ماما، لقد جرفوا سور منزلنا وجرفوا حائط غرفتي التي أنام فيها أنا وكنان وأوركيدا وكرمل، ثم أكمل ببراءته المطلقة: لكن ماما، شاشة التلفاز لا تزال بخير، نريد أن نخرج من هنا، لكنكِ تحتاجين إلى تنسيق للوصول إلينا، هناك دبابات كثيرة من حولنا وقنّاصة كثيرون في المحيط".
ثم يسلّم الهاتف لأخيه كنان (6 سنوات) ويقول لأمه: "أنا خائف جداً ولا أستطيع النوم"، وتخبرها طفلتها التوءم أوركيدا أنها تشعر بالخوف ذاته، فتوصيها والدتها بعدم الخروج والنظر من النوافذ والقيام بدور الأم والحامية لشقيقتها الأصغر كرمل (عامان ونصف العام) التي كانت تنادي والدتها: "ماما، ماما"، لتعدهم الأم بأنها ستعمل المستحيل لإنقاذهم ويغيب صوتهم مع انقطاع الاتصال الذي كان آخر اتصال وآخر صوت تسمعه من طفلتها كرمل تناديها مستغيثة.
تضيف آلاء: "يومياً، أرسل إليهم رسائل عبر الهاتف المتبقي لديهم علّ رسائلي تصل إليهم، لكن لا يصل إليّ أي ردّ. أصبحت أتتبع الأخبار حول المنطقة فلا أحد يستطيع الوصول إليها بسبب تحويلها إلى مقر للعمليات العسكرية الإسرائيلية في خانيونس. أخبرني البعض أنه يمكن أن يكون الاحتلال قد أخرجهم من المنزل وجمع السكان الذين تبقوا في المنطقة وهم كثيرون جداً. فهناك عائلات كثيرة ظلت عالقة كأطفالي في تلك المنطقة المحاصرة، والاحتلال ربما يبقيهم تحت حجر عسكريّ. عشت على هذا الأمل، وقلت ربما أخذهم الاحتلال إلى جهة ما وهم غير قادرين على التواصل معي أو ربما لا يزالون في البيت، لكنهم لا يجدون مصدراً لشحن الهاتف الذي في حوزتهم".
كانت تواسي نفسها حتى استطاع عم الأطفال الذي لم يكن في المنزل آنذاك أن يصل إليه بصعوبة بالغة وفوق رأسه طائرات الكواد كابتر والتي تطلق الرصاص على كل من يتحرك في تلك المنطقة. لكن شاء الله أن يصل إلى هناك وأن ينجو، وكان ذلك في صباح 21 من فبراير/ شباط.
وصلت إليها الرسالة: "المنزل مقصوف تماماً على كل مَنْ فيه وقد وُجد أحد أعمام الأطفال على مقربة من باب المنزل جثّة متحللة". الحصار كان في ديسمبر/ كانون أول 2023 والتسلل للمنزل كان في فبراير/ شباط 2024، ولكن رفع الأنقاض يتطلب في غزة أعماراً، فأجساد الأطفال بقيت تحت الأنقاض حتى إبريل/ نيسان 2024، فهل كانت أربعة أشهر أم ستة على الشهادة لا أحد يعلم. كما أن العثور على ما بقي من هذه الأجساد يتطلب وجود آليات حرمت منها غزة، ومعرفة تاريخ الاستشهاد وسبب الشهادة يتطلب وجود مختبرات طبية وإجراء تحاليل متقدمة تفتقر إليها غزة، لكن المثبت أنهم استشهدوا جميعاً بفعل آلة البطش العسكرية التي لا تراعي حجراً أو بشراً من لحم ودم.