كان لجدتي مثل الكثير من النساء المسنات في السودان، وربما في عدد من الدول الأفريقية، وحول العالم اهتمام خاص بـ"بخور اللبان". كنا في طفولتنا نغافلها لالتقاط تلك القطع البلورية ذات الطعم اللاذع والنكهة اللطيفة، فنبقي العلكة بين فكينا لفترات تطول، لا كما يحدث حين نتناول بلورات الصمغ التي سرعان ما تذوب ويختفي أثرها.
أما ما يجمع بين بلورات الصمغ واللبان، فهو أن مصدرها جروح تُحدث باحتراف في سيقان بعض أنواع الأشجار. ويطلق على شجرة اللبان (الكندر)، أو اللبان المقدس، و"البوسويلية المقدسة". وفي بعض مناطق السودان نقول "الرطرط". وهي شجرة شوكية لا يزيد طولها على ذراعين، تنبت في الجبال، إذ تنتشر بصورة كبيرة في المناطق الجبلية كالبحر الأحمر وجبال النوبة وجبل مرة. ويقول أحد أبناء منطقة مكجر في ولاية وسط دارفور إنها تشكل 60 في المائة من الغطاء الغابي هناك.
ويؤكد الخبراء أن شجرة اللبان حظيت عبر الأزمان بحضور تاريخي هائل، جعل منها جسراً للتواصل بين حضارات العالم القديم قبل أكثر من 7 آلاف سنة. ولأجلها، تحركت القوافل التجارية في مسارات شاقة عبر الدول. ويصل متوسط إنتاج الشجرة الواحدة إلى عشرة كيلوغرامات تقريباً من الثمار.
ضرب أشجار اللبان ليس عملية عشوائية، إذ يحتاج إلى مهارة فنية خاصة ويد خبيرة، وتختلف الضربات من شجرة إلى أخرى بحسب الحجم، ويستمر موسم الحصاد لمدة ثلاثة أشهر. ففي أوائل إبريل/ نيسان من كل عام، ومع بداية ارتفاع درجات الحرارة، يبدأ المشتغلون بجمع الثمار، و"تجريح" الشجرة في مواضع متعددة.
ويسمي البعض الضربة الأولى بـ "التوقيع"، وهي كشط القشرة الخارجية لأعضاء الشجرة وجذعها، ويتلو هذه الضربة نضوح السائل ذي اللون الحليبي، واللزج كما الصمغ، وسرعان ما يتجمد فيتركونه هكذا لأسبوعين قبل حصاده. ثم تأتي عملية التجريح الثانية، ذلك أن النوعية في هذه المرة لا تكون بنفس القدر من جودة سابقتها، فضلاً عن كون الكميات المنتجة منها لا تضاهي تلك.
كذلك شكلت الغابات مصدر عيش لقطاع واسع من المواطنين، ومن بينها شجرة الرطرط التي أضحت حمايتها واحدة من المشكلات المعقدة نسبة لضعف الوعي المجتمعي وهجمات الاستثمار الأعمى. ولأن "طق الرطرط" عملية دقيقة، فإن أي خطأ فيه يتسبب بموت الشجرة. ويتردد أن ما لحق بأشجار الرطرط من أضرار منذ بدء الاستثمار فيها عام 2017 من جراء الطق الخاطئ يصل إلى فقدان 90 في المائة منها.
هذا الأمر دعا عدداً من الناشطين في منطقة وسط دارفور للدخول في اعتصام لأيام طويلة بهدف لفت الأنظار إلى المخاطر التي تحدق بمورد طبيعي مهم للمنطقة، وجاءت الاستجابة بعد 9 أيام بإصدار قرار يقضي بوقف عمليات الطق الخاطئة. فهل يلتفت المسؤولون إلى أهمية نشر الوعي، وتدريب السكان المحليين على الطرق السليمة للطق، حفاظاً على ما تبقى من هذا المورد المهم؟
(متخصص في شؤون البيئة)