"صبح العروس"... قونية التركية تحتفي بذكرى وفاة "مولانا"

16 ديسمبر 2021
رقص في استذكار لجلال الدين الرومي (آدم ألطان/ فرانس برس)
+ الخط -

غداً، تنتهي احتفالات (استمرت 10 أيام) في مدينة قونية التركية (تقع في محافظة تحمل نفس الاسم في وسط جنوب الأناضول) في تركيا، وقد شارك فيها سياح ومواطنون من محبي جلال الدين الرومي، وهو من أكبر شعراء التصوف، بما يُعرف بـ "صبح العروس" أو "ليلة العرس"، وهي الليلة التي كان ينتظرها الرومي الشهير بلقب "مولانا" ليعود إلى الذات الإلهية، وفق منظوره التصوّفي. وكأنّ أنصار التسامح وقبول جميع الديانات يعلنون لصاحب الطريقة المولوية (إحدى الطرق الصوفية) أنّهم لن ينسوه. والبداية كانت من خلال مسيرة جابت قونية للوصول إلى مسك الختام وحضور رقصة السماح المولوية للدراويش، وما بينهما من فعاليات تضمنت معارض ومؤتمرات ومسرحيات وندوات، تعرّف جميعها بأحد أهم المتصوفين في التاريخ الإسلامي، ومؤسس الطريقة المولوية والمذهب المثنوي في الشعر.
استكملت كامل التحضيرات للرقصة المولوية، كما يقول مدير فرقة الموسيقى الصوفية التركية التابعة لوزارة الثقافة والسياحة، فخري أوزتشاقيل، بمشاركة 11 درويشاً و25 موسيقياً وفنانين آخرين، لتكون مسك الختام وتجسيداً "لكلّ الديانات خير وكلها حقيقة"، والتذكير بفلسفة الرومي في الحب "دين العشق لا مذهب له لتؤمن به أو لا تؤمن".
ومنذ عام 1244، اقترنت ولاية قونية بالرومي واقترن بها، على الرغم من أنّه من مواليد مدينة بلخ (تقع اليوم في أفغانستان) في 30 سبتمبر/أيلول 1207. كان والده بهاء الدين ولد يلقّب بسلطان العارفين، لما له من سعة علم ومعرفة بالدين والقانون والتصوف. أما والدته فهي مؤمنة خاتون، ابنة أمير بلخ ركن الدين.

إلّا أنّ غزو المغول خراسان أدى إلى تهجير العائلة التي هربت إلى نيسابور (مدينة في مقاطعة خراسان شمال شرقي إيران قرب العاصمة الإقليمية مشهد)، لتبدأ أولى ملامح شخصية الرومي في التكوّن بعد لقائه الشاعر الفارسي فريد الدين العطار، الذي أهداه ديوانه "أسرار نامه". ويرى النقاد أنّ هذا شكل دافعاً للرومي للغوص في عالم الشعر والروحانيات والصوفية.

الصورة
متحف "مولانا" في قونية (رايموند فرانكين/ Getty)
متحف "مولانا" في قونية (رايموند فرانكين/ Getty)

لكنّ المقام لم يدم بنيسابور، فهاجرت العائلة إلى العراق ثم إلى سورية لأربع سنوات، ثم إلى بلاد الحجاز، لتستقر في الأناضول أولاً، حيث توفيت والدته مؤمنة خاتون. وخلال تلك السنوات، تزوج الرومي بجوهر خاتون وأنجب منها سلطان ولد وعلاء الدين شلبي. وخلال تلك السنوات السبع أيضاً، توفيت زوجته، وتزوج من أخرى وأنجب ابنه أمير العلم شلبي وابنته ملكة خاتون.
وبناء على دعوة من السلطان السلجوقي علاء الدين كيقباد، هاجرت أسرة جلال الدين الرومي مرة أخرى إلى قونية عاصمة دولة السلاجقة، ووصل إليها في الثالث من مايو/أيار 1228، لتبدأ مرحلة جديدة في حياته. لم يمضِ وقت طويل حتى توُفّي بهاء الدين ولد. حينها فقد جلال الدين الرومي معلّمه ومرشده الأول، إلّا أنّه التقى حينها بشيخه ومرشده الذي لازمه لسنوات وساهم في تكوين شخصيته، برهان الدين محقق ترمذي، أحد مريدي بهاء الدين ولد وأنبغ تلامذته. ولم تكتمل ملامح شخصية الرومي إلّا بعد عام 1244، ووصول الشاعر الفارسي شمس الدين التبريزي إلى قونية إلى حين اغتياله عام 1248، حين بلغ جلال الدين الرومي من الحزن ما صار مثلاً، ليخرجه عبر "الديوان الكبير" أو ديوان شمس الدين التبريزي، قبل أن يغْني المكتبة قبل وفاته عام 1273 بالرباعيات، وديوان الغزل، ومجلدات المثنوي الستة، والمجالس السبعة، ورسائل المنبر.

يذكر عن الرومي إيمانه العميق بتعاليم الإسلام، لكنّه مارس طقوسه بفكر متسامح، فلم يجد في بقية الأديان أعداء، وسحب نهجه بالتعليل الإيجابي وسحب الأمور عن طريق المحبة والتماهي بين المخلوق والخالق، إلى تلامذته وأتباعه، بعدما أضاف وفق صوفيته الموسيقى والشعر للتواصل، ليغدو مؤسساً لنهج المولوية التي انتشرت في أصقاع العالم الإسلامي.
أما عن مدينة قونية، فهي من أكبر المدن التركية اليوم، ويعود عمرها إلى نحو 7000 عام قبل الميلاد، وإن كان ذروة مجدها اختيارها عاصمة السلاجقة قبل أن تتحول، بعد الرومي وأبيه، إلى مدينة روحانية دينية وواحدة من الأماكن الأكثر محافظة في تركيا.
وعلى الرغم من أن قونية تضم معالم سلجوقية نادرة، منها "برج السلاجقة" و"خان زازادان" الذي بناه الوزير السلجوقي سعد الدين كوبك، وفيها من جمال الطبيعة كحديقة العدالة وبحيرة مكة، ومن الدولة العثمانية الحمامات ومسجد علاء الدين، فإنّ لـ"متحف مولانا" الحظوة والحضور الأبرز، إذ لا يقل عدد زواره سنوياً عن ثلاثة ملايين زائر.

يقبل كثيرون على زيارة متحف "مولانا" (آدم ألطان/ فرانس برس)
يقبل كثيرون على زيارة متحف "مولانا" (آدم ألطان/ فرانس برس)

وبُني "متحف مولانا" عام 1274 تحت إشراف المهندس المعماري بحر الدين تبريزلي، ليدفن فيه جلال الدين الرومي عام 1273. وأخذ البناء التصميم السلجوقي (تقاليد البناء التي استخدمتها سلالة السلاجقة)، إذ جُعلت الطبلة الأسطوانية لقبّة المبنى الرئيسي مكسوة بالقرميد الأخضر ومزخرفة بخزف فيروزي ترتكز على أربعة أعمدة، واستمر على وضعه الراهن حتى عام 1854، إلى أن تحول إلى مسجد وأُضيفت العديد من الأقسام إليه. وعمد سليم أوغلو عبد الواحد إلى تزيينه أيضاً وحفره على خشب النعش.
وفي الزاوية تحت القبة، يوجد قبر جلال الدين الرومي، المزخرف بالذهب والمغطى بقماش ذهبي. وخلف قبر جلال الدين الرومي غرفة كبيرة توجد فيها معروضات من التحف التاريخية المولوية، منها آثار الرومي الشخصية، بما في ذلك القبعات المخروطية وسجادة صلاته، وملابس، وآلات موسيقية قديمة كالناي المصنوعة من الخيزران.

كما ضمت زاوية دراويش المولوية إلى المتحف بعد إغلاقها عام 1925 والتي تضم نحو 10 آلاف من الموجودات الأثرية التي تخص دراويش المولوية، والبعض منها جار حفظه في مستودعات خاصة، في وقت يجري عرض البعض الآخر.
وربما خير ختام، بعض مما قاله الرومي في ما يتعلق بالتواصل مع الله: "وضع الله أمامنا سلّماً علينا أن نتسلقه درجةً إثر درجة، لديك قدمان فلِمَ التظاهر بالعرج؟". أو ما قاله في العشق والتصوّف من أنّ "النور الذي في العين ليس إلّا أثراً من نور القلب. أما النور الذي في القلب فهو من نور الله". وحول التسامح بين الأديان ومزج العشق بذلك، قال: "ليس العاشق مسلماً أو مسيحياً أو جزءاً من أيّ عقيدة. دين العشق لا مذهب له، لتؤمن به أو لا تؤمن".

المساهمون