أجرى النظام السوري تغييرات في أجهزته الأمنية المتعددة، شملت أهم المناصب، حيث استبعد عدداً من كبار الضباط الذين ظلوا في الواجهة الأمنية، قبيل وأثناء سنوات الثورة السورية، وكانوا اليد السوداء التي بطشت بقوى الثورة المدنية والعسكرية، ما جر عليهم عقوبات غربية لم تردعهم عن ارتكاب المجازر بحق السوريين. وخرج أخيراً اللواء جميل الحسن من رئاسة الجهاز الأخطر لدى النظام، وهو المخابرات الجوية، ذات الطابع الطائفي الواضح، والتي فتكت بالسوريين منذ عام 2011، حيث تعد مسؤولة عن عمليات القتل الجماعي والقتل تحت التعذيب. وحل محله نائبه اللواء غسان جودت إسماعيل، وهو من الطائفة العلوية كسلفه، ويتحدر من محافظة طرطوس التي تعد خزاناً لمؤيدي النظام.
وكان النظام مدد لجميل الحسن ست سنوات بعد انتهاء خدمته، حيث كان الحسن من أركان النظام، لكنه كما يبدو تعرض لوعكة صحية شديدة أخيراً، ما استدعى الاستغناء عن خدماته رغم تاريخه الأسود المليء بالدماء، والولاء لنظام بشار الأسد. وعيّن النظام اللواء حسام لوقا رئيساً للمخابرات العامة (أمن الدولة)، وهو وفق مصادر إعلامية معارضة من أصول شركسية ويتحدر من بلدة خناصر جنوب شرقي مدينة حلب. وبذلك استبعد اللواء ديب زيتون المتحدر من منطقة القلمون، والذي كان له دور كبير في البطش بالمتظاهرين السلميين، كما كان العراب لعمليات المصالحات التي مكّنت النظام من السيطرة على مناطق المعارضة.
كما عيّن اللواء ناصر العلي رئيساً لشعبة الأمن السياسي، وهو من عشيرة الحديديين العربية من قرى منبج. وكان شغل منصب رئيس الأمن السياسي في حلب قبل الثورة، ثم رئيس الأمن السياسي في درعا خلفاً لعاطف نجيب، ابن خالة بشار الأسد، والذي أدت معاملته السيئة لأهل درعا لانتفاضتهم في وجه نظام الأسد في العام 2011. وانتقل اللواء ناصر ديب المتحدر من مدينة القرداحة من منصب نائب رئيس شعبة الأمن السياسي إلى منصب مدير إدارة الأمن الجنائي. وتعد هذه التغييرات الأكبر والأعمق في أجهزة النظام الأمنية منذ 2012، العام الذي شهد تفجير قاعة اجتماعات ما كان يُسمى بـ "خلية الأزمة" والذي أدى إلى مصرع عدد من أركان النظام، في حادث لا يزال الغموض يكتنفه. وكانت شعبة المخابرات العسكرية شهدت تغييراً مماثلاً قبل نحو شهر، إذ تم تعيين اللواء كفاح ملحم رئيساً لها بدلاً من اللواء محمد محلا.
وللقادة الأمنيين الجدد في النظام، تاريخ حافل بالانتهاكات طيلة سنوات الثورة، وهو ما أهّلهم لتولي أخطر المناصب في نظام يعتمد على البطش والتنكيل لإخضاع السوريين. ووفق موقع "مع العدالة" المعني بتوثيق انتهاكات الأجهزة الأمنية للنظام، فإن غسان جودت إسماعيل "برز من خلال الجرائم التي ارتكبها، عندما كان يشغل منصب رئيس فرع المهام الخاصة، إذ شارك مع الفرقة الرابعة في عمليات اقتحام داريا في عام 2011، وتنفيذ إعدامات جماعية واعتقال وإخفاء مئات الناشطين والمدنيين في السجون التابعة للنظام". وشغل إسماعيل منصب رئيس فرع أمن الدولة في السويداء في عام 2016، وهم متهم بالضلوع في عمليات خطف وطلب فدية خلال شغله للمنصب. ويتحدر غسان جودت إسماعيل، بحسب مصادر محلية، من قرية جنينة رسلان، الواقعة في ريف اللاذقية على الساحل السوري، وهو من مواليد 1960، ومعروف بولائه الشديد للنظام، وكان يشغل منصب نائب مدير إدارة المخابرات الجوية قبل تعيينه خلفاً لجميل حسن، حيث تمت ترقية غسان إسماعيل لرتبة لواء مطلع العام الماضي. ونقلت "هيومن رايتس ووتش" عن أحد المنشقين عن قوات النظام قوله إن "غسان إسماعيل، قائد وحدة العمليات الخاصة، أعطى أوامر شفهية بإطلاق النار على المتظاهرين، عندما تم إرسال وحدته لقمع تظاهرة في داريا أثناء عملية أخرى في يونيو/حزيران 2011، مع الفرقة الرابعة". وطبقاً للمنشق، كانت أوامره "لا تطلقوا النار في الهواء، صوبوا مباشرة على المتظاهرين". ويقول موقع "مع العدالة"، المختص بتوثيق الجرائم والانتهاكات في سورية، إن اللواء غسان إسماعيل هو المسؤول المباشر عن حوادث الاختفاء القسري لآلاف المدنيين، وعن تصفية عدد كبير من المعتقلين في سجن المزة العسكري، الأمر الذي دفع الاتحاد الأوروبي، في يوليو/تموز 2012، لتضمين اسمه في الحزمة 17 من عقوباته على النظام، في قائمة تضم 27 مسؤولاً في النظام السوري.
ويعتبر اللواء حسام لوقا من أبرز الشخصيات الأمنية التابعة للنظام السوري، وهو أسهم في قمع المتظاهرين في مدينة حمص إبان تسلمه رئاسة فرع الأمن السياسي فيها. وفي عام 2012 أدرج الاتحاد الأوروبي اللواء لوقا على قائمة العقوبات، بسبب مشاركته في تعذيب المتظاهرين والسكان المحليين في المناطق التي ثارت ضد نظام بشار الأسد. كما يعد اللواء ناصر ديب، الذي يتحدر من منطقة القرداحة في محافظة اللاذقية، من الأذرع السوداء للنظام في عمليات القمع الواسعة التي شهدتها البلاد. وهو وفق موقع "مع العدالة" جمع "ثروة كبيرة، تقدر بملايين الدولارات، كما يمتلك عدداً من السفن، وذلك من خلال استغلال الوظائف التي تولاها، حيث يُتهم بالفساد والاختلاس وتلقي الرشى" وفق الموقع.
ويعد الجهاز الأمني في النظام من أكثر مؤسساته تماسكاً، بسبب حرصه على تعيين الضباط الأكثر ولاءً له، بغض النظر عن الكفاءة. كما يحرص النظام السوري، منذ عقود، على تولية ضباط من الطائفة العلوية في المناصب الحساسة لضمان عدم حدوث أي عمليات اختراق، وهو ما يفسر قلة الضباط الذين انشقوا عن النظام من الأجهزة الأمنية خلال سنوات الثورة، بخلاف جيش النظام الذي انشق عنه آلاف الضباط. ويعتمد النظام على جهاز المخابرات الجوية، الذي أنشأه الأسد الأب في سبعينيات القرن الماضي. وأكدت مصادر مطلعة في المعارضة السورية، لـ"العربي الجديد"، أن إيران اخترقت هذا الجهاز القمعي من خلال رئيسه السابق جميل الحسن، مشيرة إلى أن الأخير "موالٍ لإيران، وورّثَ هذا الولاء لخلفه غسان إسماعيل". وأكدت المصادر أن القرار في جهاز المخابرات الجوية "إيراني أولاً وأخيراً"، مشيرة إلى أن "الأجهزة الأمنية الإيرانية كانت ولا تزال تعمل من داخل جهاز المخابرات الجوية".
ومارس هذا الجهاز عمليات قتل تحت التعذيب منذ الشهور الأولى من الثورة، والناشط السلمي غياث مطر، الذي قتل تحت التعذيب في العام 2011، أبرز دليل على همجية ضباط وعناصر هذا الجهاز. وأكدت ذات المصادر أن اللواء ناصر العلي الذي تولى جهاز أمن الدولة "ميوله نحو الروس"، مشيرة إلى أنه "ليس لديه تاريخ موغل بالإجرام كسلفه"، مضيفة "لكن دور هذا الجهاز في البلاد محدود قياساً بدور المخابرات الجوية والعسكرية، والتي عادة لا يتولى القيادة فيهما إلا ضباط دمويون". وأشارت المصادر إلى أن دور جهاز الأمن الجنائي يقتصر على القبض على مرتكبي الجرائم الجنائية، ولا يتدخل عادة في القضايا الأمنية والعسكرية، وهو تابع لوزارة الداخلية، مثله مثل جهاز أمن الدولة، في حين أن تبعية المخابرات الجوية والعسكرية لوزارة الدفاع التي أطلقت يد هذين الجهازين في ارتكاب المجازر وتعذيب المعتقلين حتى الموت.
ومن الواضح أن التغييرات التي أجراها النظام السوري تندرج في سياق استعداد لمرحلة جديدة، ربما يضطر فيها إلى الولوج في العملية السياسية، تحت ضغط روسي، لذا يحاول استبعاد أغلب الشخصيات ذات السجلات السوداء خلال سنوات الصراع والتي باتت تثقل كاهله. وتطالب المعارضة السورية بحل الأجهزة الأمنية التابعة للنظام في أي حل سياسي قادم، وتأسيس جهاز جديد يتولى قضايا أمن الدولة تحت إشراف مباشر من وزارة الداخلية والجهاز القضائي. ومن المتوقع أن تصر المعارضة السورية على تضمين الدستور القادم مادة واضحة تجعل الأجهزة الأمنية والجيش تحت إشراف الحكومة والبرلمان، وتجاوز المرحلة التي تحولت فيها هذه الأجهزة إلى أدوات قمع خارج سلطة القانون.