استمع إلى الملخص
- وُلد حشاد في قرقنة عام 1914، وكان مثقفًا وخطيبًا بارعًا، أسس العمل النقابي في تونس وساهم في توحيد النقابات في الاتحاد العام التونسي للشغل عام 1946.
- يُعتبر اغتياله نتيجة لنشاطه النقابي ومقاومته للاستعمار الفرنسي، حيث قاد إضرابات وطنية للمطالبة بالاستقلال، وتبقى الحقيقة وراء اغتياله غامضة.
في صباح مثل هذا اليوم من عام 1952، وبينما كانت تونس لا تزال ترزح تحت سيطرة الاحتلال الفرنسي قامت عصابة فرنسية تسمى "اليد الحمراء" بتنفيذ خطة اغتيال أحد قادة الحركة الوطنية المقاومة للاستعمار فرحات حشاد الذي يعتبر من أهم مؤسسي النضال النقابي في تونس. وتحكي الرواية المتداولة عن اغتيال حشاد أن سيارة كانت تلاحقه في الطريق إلى ضاحية رادس بضواحي العاصمة تونس حيث كان يقطن، وأطلق عليه ركابها النار قبل أن تغادر المكان مسرعة، ولكن حشاد أُصيب فقط في ذراعه وكتفه وتمكّن من الخروج من سيارته، ولكن سيارة أخرى ظهرت وأطلق ركابها النار على حشاد المصاب من جديد وأصابوه في رأسه وبعد تأكدهم من موته ألقوه على جانب الطريق.
فرنسا ما زالت تخفي تفاصيل الاغتيال
وُلد فرحات حشاد في جزيرة قرقنة بولاية صفاقس، شرق تونس، في الثاني من فبراير/ شباط عام 1914، وحصل على الشهادة الابتدائية عام 1929، وبسبب الفقر لم يواصل تعليمه بعد وفاة والده. غير أن من عرفه في تلك الفترة يؤكد أنه كان شخصية مثقفة وخطيباً بارعاً وسياسياً ماهراً. ولم تكشف السلطات الفرنسية إلى اليوم عن حيثيات الجريمة رغم مرور 72 سنة على الاغتيال، علماً أن الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولند، كان أكد في زيارة إلى تونس في 2013 قرار الحكومة الفرنسية فتح الأرشيف الخاص باغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد لكشف ملابسات هذه الجريمة. وأقيم "معهد فرحات حشاد" في ضاحية رادس قرب مكان تنفيذ جريمة الاغتيال تخليداً لذكراه.
وقال نجل فرحات حشاد في حديث مع "العربي الجديد" على هامش مسيرة للنقابيين، خرجت أمس الأربعاء، في تونس بذكرى الاغتيال: "الحقيقة ستظهر، وهناك عدة حقائق تم الوصول إليها"، مؤكداً أنه "عمل على كشف الحقيقة وتمكن من الحصول على عدة أجوبة يمكن اعتبارها جيدة"، مضيفاً أن "هناك جديدا في هذا الملف وسيكشف عنه في التوقيت المناسب".
وقال الناطق الرسمي باسم الاتحاد العام التونسي للشغل، سامي الطاهري، لـ"العربي الجديد" إن "ذكرى 5 ديسمبر عزيزة على التونسيين لأنهم فقدوا شهيد وطن وليس نقابياً فقط، فحشاد ناضل من أجل القضايا الاجتماعية لكنه كان أيضاً يناضل من أجل تحرير الوطن والاستقلال، لذلك فإن هذه الذكرى مهمة وهي من المحطات التاريخية التي يحييها الاتحاد كل سنة تأكيداً على أن الثوابت التي مات من أجلها حشاد يجب التمسك بها والسير على منوالها لكي تكون تونس بلد الحرية والاستقلال والسيادة الوطنية".
وأضاف الطاهري أن "ملف كشف حقيقة اغتيال حشاد تقدم كثيراً والرئيس السابق فرنسوا هولاند كان زار أرملة الشهيد حشاد واعتذر على دور فرنسا في اغتيال حشاد وسلمها وثائق، وهناك تقدم مهم في هذا الملف وهناك قضايا مرفوعة على المستوى الفرنسي والأوروبي من أجل متابعة مرتكبي جريمة الاغتيال ومن كان يقف وراءها، والأهم أن الدولة الفرنسية اعترفت بالجريمة والمطلوب الآن أن لا تكتفي بالاعتذار بل تصحح ما قامت به عبر التاريخ من اغتيالات وهذا لا يشمل فقط حشاد بل شهداء تونس الذين قُتلوا على يد المستعمر الفرنسي وعددهم بالآلاف".
من جهته، أكد الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل ، سمير الشفي، في تصريح لـ"العربي الجديد" أن "حشاد هو العنوان الأبرز في تاريخ تونس الحديثة بما يمثله من قيم وانحياز إلى عموم الناس وإلى قضايا الشعب والحق في تقرير المصير والنضال من أجل التحرر من الاستعمار الفرنسي آنذاك"، مبيناً أن "حشاد العظيم سيظل عنوان الوطنية الخالصة التي لا تشوبها أي شائبة". وأضاف أن "عبارة (أحبك يا شعب) ستظل رمز العطاء والوفاء والتضحية من أجل قضايا الشعب"، مشيراً إلى أن هذه العبارة لم تكن مجرد شعار أطلقه حشاد، بل "دليل عمل ترجمه حشاد على أرض الواقع عندما قال: خير لي أن أموت ويروي دمي تراب الوطن من أن أموت ودمي متجمد في جسدي البالي".
فرحات حشاد وتأسيس العمل النقابي في تونس
وعرف مسار تأسيس العمل النقابي في تونس محطات وتحولات عديدة في ظل الاستعمار الفرنسي، وقال المؤرخ التونسي عبد اللطيف الحناشي في حديث مع "العربي الجديد" إنه "بالعودة إلى جذور الحركة النقابية التونسية نرى أنها قد تأثرت تأثراً كبيراً جداً بالنقابات الفرنسية وقتها"، موضحاً أن "بعض العمال وقبل تأسيس جامعة عموم العملة التونسية، كانوا في 1924 ينشطون ضمن النقابات الفرنسية، اليسارية أو اليمينية، وكانت هذه النقابات تميز الفرنسيين عن التونسيين وهو ما دفع التونسيين كمحمد علي الحامي والطاهر الحداد وأحمد توفيق المدني إلى تكوين نقابة عمالية. وكانت فكرة محمد علي الحامي، العائد من المهجر، الأساسية هي تكوين تعاونيات، وهي الفكرة الرائجة حينها في ألمانيا ولكن الأوضاع تغيرت وأنشأ جامعة عموم العملة التونسيين (أول منظمة نقابية تونسية). ولكن هذه التجربة لم تدم طويلاً رغم أن الحزب الحر الدستوري كان وراءها إلا أن اختلاف الأطروحات بين الدستوري وأعضاء من اليسار الشيوعي أدت لإيقافها".
وأضاف الحناشي أنه في 1937 "عادت التجربة مجدداً عن طريق بلقاسم القناوي، ولكنها اصطدمت بالديوان السياسي للحزب الدستوري بسبب الخلاف مع بورقيبة وصالح بن يوسف والهادي نويرة. وفي هذه المرحلة جاء دور النقابي فرحات حشاد الذي عمِل على توحيد النقابات وامتلك تجربة وهو الذي عرف طبيعة الظلم الذي يتعرض له التونسيون وهو ما دفعه إلى توحيد النقابات في يناير 1946، وكان ذلك بمثابة تحول كبير، حيث جاءت هذه التجربة بعد الحرب العالمية الثانية مع علو شأن قيم الديمقراطية وحرية الإنسان واستغل حشاد تلك الظروف من أجل توحيد النقابات الكبرى في الاتحاد العام التونسي للشغل".
وبيّن أستاذ التاريخ السياسي المعاصر في الجامعة التونسية أن "حشاد كان يمتلك كاريزما كبيرة، وله قدرة على التفاعل مع الآخرين، وكان معتدلاً وقادراً على الإقناع"، مضيفاً أن "تجربته النقابية في النقابات الفرنسية ساعدته كثيراً، كما أن الظرفية السياسية الوطنية والدولية ساعدته أيضاً بعد انتصار الحلفاء وامتداد الحريات"، مؤكداً أن "هناك ميزة لحشاد وهي بناء العلاقات الدولية مع الغرب والولايات المتحدة الأميركية وكان يعول كثيراً على المثقفين". ويشير الحناشي إلى أن الوضع الاقتصادي كان متردياً في تونس ما ساعد حناش على توحيد النقابات. ولفت إلى أن "الاتحاد العام التونسي للشغل تمكن من تجميع الفئات وكذلك الطبقة العاملة التونسية في ظل هذه المنظمة، وهنا يبرز ذكاء حشاد حيث أنه توجه إلى شخصيات وطنية مؤثِرة معروفة كعائلة بن عاشور ووضع الشيخ الفاضل بن عاشور رئيساً للمؤتمر واختاره لرئاسة المؤتمر التأسيسي لأنه يمثل الشخصية التونسية الأصيلة والمنفتحة. وكانت نقابة الموظفين ذات دور مميز ولعبت دوراً مهماً إذ تم اختيار شخصيات رمزية، وهو استغل عدة عوامل لتأكيد أن النقابة هي تونسية وتدافع عن الهوية الوطنية، ما أدى إلى انسلاخ عدة عمال من النقابات الفرنسية وتوجههم إلى الاتحاد، وكان أول نشاط للاتحاد مشاركته في مؤتمر الاستقلال في يوليو/تموز 1946، وهذا المؤتمر طالب باستقلال تونس وطرح فيه هذا الموضوع لأول مرة".
وأضاف الحناشي أن "السائد لدى كثير من المتابعين أن اغتيال فرحات حشاد كان نتيجة قربه من الولايات المتحدة الأميركية، ولكن رغم هذا القرب إلا أنه توجه إلى الحركة الليبرالية بعد أن درس جيداً موازين القوى والمنظمات النقابية الغربية (مثل اتحاد النقابات الدولي المعروف باسم السيزل) واقترب منها كثيراً، وهو الذي أوصل الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة إلى الولايات المتحدة الأميركية وفسح له المجال لبناء علاقات مع عدة شخصيات".
ويرى الحناشي أن "الاعتقاد أن سبب الاغتيال كان بسبب هذا القرب غير دقيق، لأن السبب الحقيقي هو نشاطه داخل الاتحاد العام التونسي للشغل، ففي 1950 كان اندلاع الثورة بعد نفي زعماء الديوان السياسي للحزب الدستوري، ولعب حشاد دوراً في اندلاع الثورة رفقة أحمد التليلي، وبالنسبة إلى فرنسا فإن كل من يقاومها تعاقبه إما نفياً أو بالاغتيال، وفرحات حشاد ساهم لأول مرة في تاريخ البلاد في شن أول أضراب في30 أغسطس/آب 1946 وكانت هناك مطالب بإطلاق سراح قيادات الحركة الوطنية الذين اعتقلوا من قبل فرنسا في مؤتمر الاستقلال وكان هذا الإضراب ذا بعد وطني" كما نفذ حشاد إضراباً آخر في 1951 ونفذ "عدة إضرابات أخرى تميزت بامتدادها الجغرافي على كامل البلاد، وما قام به حشاد لم يتمكن حتى الحزب الحاكم من القيام به وقتها".
ويعتقد الحناشي أنه من الصعب كشف الحقيقة وراء اغتيال حشاد لأن "الاغتيالات ذات الطابع السياسي عادة لا يُعلن عنها، فهي تتم عن طريق الدولة بمساعدة أياد خفية"، مضيفاً أن هذه "الاغتيالات تُعتبر جريمة دولة واذا تم الاعتراف بها فهناك عدة تداعيات ولهذا عادة لا يمكن الإفصاح بها" مشيراً إلى أنه "من المعروف أن اليد الحمراء هي من نفذت الاغتيال، ولكن السوال الأهم: من وراءها؟".