تاريخ من العنصرية والقمع تعيد إحياءه أحداث فيرغسون

27 نوفمبر 2014
التظاهرات امتدّت إلى واشنطن أيضاً (مايكل هرنانديز/الأناضول)
+ الخط -

"ما الذي نريده؟ العدالة! متى نريدها؟ الآن". هو واحد من الهتافات التي تصاعدت من حناجر الأغلبية الساحقة في التظاهرات التي اندلعت في جميع أنحاء الولايات المتحدة، بدءاً من نيويورك الواقعة على الساحل الشرقي للبلاد، وصولاً إلى لوس أنجلس على الساحل الغربي، احتجاجاً على إعلان لجنة المحلفين في مدينة فيرغسون في ولاية ميزوري عن إسقاط لائحة الاتهام ضد الشرطي الأبيض دارين ويلسون، الذي قتل الفتى الأسود مايكل براون (18 عاماً) في التاسع من آب/أغسطس لعدم وجود ما يكفي من الأدلة، بحسب لجنة المحلفين.

تظاهر الآلاف في مدينة فيرغسون، وقام بعضهم بأعمال شغب تخللها حرق لسيارات ونهب بعض المحال. وكان حاكم ولاية ميزوري قد أعلن حالة الطوارئ تحسباً لتبعات القرار.

ويعيد هذا الحدث والتظاهرات الاحتجاجية الغاضبة التي أشعلها، والأساليب المستخدمة لتحجيمها والسيطرة عليها من قبل الشرطة، الأسئلة التي سبق أن طرحها ناشطون ومنظمات حقوقية ووسائل إعلام أميركية بديلة، حول مشكلة العنصرية المؤسساتية في الولايات المتحدة والوضع الاقتصادي والاجتماعي البائس، الذي يعاني منه الذين يتعرضون للعنصرية، وحول عنف الشرطة الأميركية، وخصوصاً ضد السود واللاتين، فضلاً عن أسئلة حول عسكرة الشرطة في العقد الأخير.

وتذكّر أحداث فيرغسون بأعمال الشغب والعنف التي شهدتها لوس أنجلس عام 1991 في ما عرف بقضية رودني كنغ. وبرّأت المحكمة يومها أربعة أفراد شرطة كانوا قد ضربوا رودني كنغ الأسود بوحشية. والتقطت المشهد كاميرا مواطن عادي.

إذاً ليس عنف الشرطة ضد الأقليات، والسود بالذات، جديداً. ولا يزال القضاء الأميركي يثبت أنه لم يتخلص بعد من العنصرية والظلم الذي تأسس عليه البلد ودستوره.

لكن ما يميّز الأحداث الأخيرة أنها تأتي في زمن تغوّلت فيه الشرطة الأميركية، وتمت عسكرتها، وخصوصاً بعد القوانين التي سنّت بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001. كما أن الوضع الاقتصادي عموماً، وللأقلية السوداء بالذات، هو الأسوأ منذ عقود. ولعل حقيقة واحدة تلخّص الوضع وهي أن واحداً من كل ثلاثة أميركيين سود يدخل السجن.

مقتل أميركي أسود كل 28 ساعة

يشير تقرير الصحافي الاستقصائي، أرلين أيزون، إلى مقتل 313 أميركي أسود على الأقل، من الرجال والنساء وحتى الأطفال، على يد قوات الشرطة في عام 2012 وحده. وتفيد دراسة نشرتها مؤسسة "برو بابليكا" أن قوات الشرطة الأميركية قتلت بين الأعوام 2010 و2012، 1217 شخصاً، بحسب تسجيلات المكتب الفدرالي.
وبحسب هذه التسجيلات، فقد قتل من بين كل مليون مواطن أميركي حوالي 31 شاباً أسود بين الأعمار 15- 19، في حين قتل مقابل كل مليون مواطن أميركي 1.47 أميركي أبيض على يد قوات الشرطة.

ومن الجدير بالذكر، أن هذه الاحصائيات غالباً ما تصدر عن صحافيين استقصائيين ومنظمات غير حكومية. ولا توجد ملفات رسمية للشرطة الأميركية وافية حول عدد وهوية المقتولين والجناة. فهي ترفض الإعلان عن إحصائيات من هذا النوع بحجة أنها لا توثّقها. يُضاف إلى ذلك، تجاهل وسائل الإعلام لتغطية هذه القصص إلا في حالات نادرة، مما يجعل الضغط على مؤسسات الدولة لإحداث تغييرات في القانون أو الممارسات عملية معقدة وصعبة.

عسكرة الشرطة وخبرات إسرائيلية

وتبدو قوات الشرطة الأميركية، وهي تقمع المواطنين بزي عسكري في فيرغسون وغيرها من المدن الأميركية، وتصوّب سلاح الـ"إم 16" وفوهات المدرعات على مواطنيها وتطلق الغاز المسيل للدموع في كل صوب، وكأنها تقمع جمعاً من المتظاهرين في بلد أجنبي يقبع تحت الاحتلال، وليس في الولايات المتحدة نفسها.

وسلّط تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية الضوء على عقدين على الأقل، من عسكرة مؤسساتية تشهدها الشرطة الأميركية. وبحسب التقرير، زود الجيش الأميركي منذ عام 1997 الشرطة بعتاد من الأسلحة القتالية تصل قيمتها إلى أكثر من 4 مليارات دولار.
وكان الكونغرس الأميركي قد أقرّ برنامجاً خاصاً في هذا الصدد تحت اسم (1033)، إضافة إلى برامج أخرى كبرامج "مكافحة الإرهاب" الخاص بالأمن الدولي والتي تُصرف عليها المليارات كذلك.

وتشير تقارير رسمية لمنظمات صهيونية أميركية عديدة إلى أن الآلاف من عناصر الشرطة الأميركية تدربوا في مراكز إسرائيلية تحت مسمى برامج "مكافحة الارهاب"، ومن بين هؤلاء عدد من عناصر في شرطة "سانت لويس" الولاية التي تقع فيها مدينة فيرغسون ميزوري.

وكانت شرطة نيويورك قد أعلنت عام 2012 عن فتحها فرعاً في مدينة كفار سابا الواقعة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948. وبحسب شرطة نيويورك فإن قرارها بفتح هذا الفرع جاء بناءً على إيمانها بضرورة التعاون المكثف واليومي بين البلدين، والذي يتطلب وجود ممثل من شرطة نيويورك في الفرع المركزي لتلك المنطقة. لكن هذا الإعلان ما هو إلا نقطة في بحر من التعاون والتدريب الذي يقوم به الجيش الإسرائيلي تحت مسمى "صناعة الأمن القومي" ومكافحة "الإرهاب"، حيث "تُصدّر" قوات الاحتلال خبراتها العسكرية في قمع الفلسطينيين إلى دول أخرى، ومن بينها الولايات المتحدة.

اغتيالات لرموز قيادية

إن قائمة السود الذين قتلوا على يد قوات الشرطة والأمن الأميركية طويلة. ومن أبرز هذه الأحداث، إضافة إلى ما ذكر عن قضية رودي كنغ، كانت التظاهرات التي شهدتها منطقة واتس في لوس أنجلس عام 1965، إذ قامت في حينه الاحتجاجات على اعتقال سائق أسود من قبل شرطي أبيض. وأدّت الاحتجاجات التي اندلعت في أحياء السود يومها إلى مقتل 34 شخصاً وجرح أكثر من ألف آخرين. وهنا مجدداً يطرح السؤال حول استخدام جهاز الشرطة للقوة المفرطة عندما يتعلق الأمر بمتظاهرين سود وأقليات أخرى.

جاءت تلك الحادثة في أوج قيام حركة "الحقوق المدنية" للأميركيين الأفارقة، بقيادة مارتن لوثر كينغ. وفي الحديث عن مارتن لوثر كينغ يجب التوقف عند أمرين؛ الأول قيادته لـ"حركة مناهضة العنصرية" السلمية في ستينيات القرن الماضي ومن ثم اغتياله عام 1968. والأمر الثاني ملفات من أرشيف مركز التحقيقات الفدرالي "إف بي آي" تبين قيامها بتهديد لمارتن لوثر كينغ في محاولة، على ما يبدو، لحثه على الانتحار. وهنا يظهر العنف الممارس من الدولة والذي يتجلى في طرق شتى، وليس فقط من الممارسة المباشرة والجسدية للقمع عن طريق الاعتداءات على المتظاهرين أو التعذيب أو تلفيق التهم الزور، بل كذلك الدور الذي تلعبه أجهزة التجسس والاستخبارات المختلفة في الولايات المتحدة وعلاقتها المتشعبة بالأقليات عامة.

ودفع مارتن لوثر كينغ، مثل الكثير من الأميركيين السود، ثمن مبادئه ومطالبته بالمساواة، حين اغتاله أحد العنصريين في الرابع من نيسان/أبريل عام 1968. وقتها، اندلعتْ الاحتجاجات في أنحاء الولايات المتحدة إثر اغتياله، والتهمتْ الحرائق عدّة محال وبنايات في نيويورك وواشنطن وبوسطن وشيكاغو وغيرها.

واستدعت الحكومة الأميركية عشرات الآلاف من جنود الحرس الوطني، وفُرض منع التجوال في واشنطن، وتم اعتقال الآلاف من المحتجّين. وعلى الرغم من الحكم على المتّهم بالاغتيال بالسجن 99 سنة، إلا أن ثمّة الكثير من التساؤلات والشكوك حول من كان يمكن أن يكون ضالعاً بقتله. وتشيرُ أصابع الاتهام إلى جهات في الـ"إف بي آي"، إذ يُعتقد أنّ اغتيال كينغ كان مدبّراً ولم يكن بدافعٍ فردي أو عنصري فقط. ولم يتمّ إثباتُ أيّ من هذه الفرضيات بشكلٍ قاطعٍ إلى اليوم.

لكن رسالة، نشرت في صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية أخيراً، تشير إلى عمليات التجسس الواسعة التي قام بها جهاز الـ"أف بي آي" ضد مارتن لوثر كينغ، ووصلت إلى حد تهديده بكشف خياناته الزوجية، التي سجلها الـ"أف بي آي" بكل تفاصيلها الشخصية والحميمة، عن طريق أجهزة تنصت زرعها في غرف النوم والفنادق التي ذهب إليها.

وأكد مجلس الشيوخ الأميركي أخيراً حقيقة نسب الوثيقة إلى مكتب التحقيقات الفدرالي. وكان نائب مدير مكتب التحقيقات الفدرالي، وليام سوليفان، قد أرسلها له تحت اسم مستعار مرفقاً إياها بعينة من تسجيل صوتي للحظات حميمة بين كينغ وإحدى عشيقاته، في ما يبدو أنه محاولة لدفعه إلى الانتحار.

هذا التاريخ الحافل بالاغتيالات والقمع والعنف المبرمج، حيّ في الذاكرة الجمعية للسود في أميركا. ولا تساعد الفروقات الطبقية ونسبة الفقر العالية بين الأميركيين الأفارقة، مقارنة بالبيض، على هدم هذه الهوة.

ويستعيد المواطنون اليوم جزءاً من هذا الإرث والواقع، كما يستعيدون رموزه ويضيفون إلى قائمة ضحايا العنف والعنصرية المؤسساتية اسماً جديداً لشاب بريء كانت تهمته الوحيدة لون بشرته ومدينة جديدة أصبحت رمزاً لمأساة التفرقة العنصرية، التي لم يتم حلها بعد، ولمعركة مستمرة منذ تأسيس البلد.

المساهمون