ورد الجيش التركي بسرعة، أمس الإثنين، على قصف قوات النظام السوري لتجمع لقواته في قرية الترنبة القريبة من مدينة سراقب في ريف إدلب الشرقي. ووفق مصادر تركية، فقد أدى القصف إلى مقتل وإصابة العشرات من عناصر قوات النظام، فيما نفت وكالة "سانا" التابعة للنظام وقوع إصابات. وتحدث المرصد السوري لحقوق الإنسان عن مقتل 13 من عناصر قوات النظام وإصابة نحو 20. ويعد الرد الحالي التركي هو الأعنف والأكبر، إذ لم يقتصر على استهداف مصادر النيران، بل طاول مواقع لقوات النظام في كل من اللاذقية وريف حماة وحلب، وشاركت فيه النقاط التركية في "منطقة خفض التصعيد"، وقواعد في ريف حلب الشمالي، ومن داخل الأراضي التركية، بالإضافة، بحسب أنقرة، لسلاح الجو.
ولا شك أن التعزيزات الضخمة التي دفع بها الجيش التركي، خلال الأيام الماضية، والتي وصلت إلى ريفي إدلب وحماة والمناطق القريبة من خطوط المواجهات، تشير إلى تبدل في الموقف التركي ميدانياً، إذ إن أنقرة لم تكن لتدفع بعشرات الدبابات وناقلات الجنود والمدافع لولا وضعها احتمالات جديدة لقواعد اللعبة في إدلب، وانتقالها لمرحلة الهجوم، عوضاً عن البقاء في موقع المتفرج. وأدى هجوم قوات النظام السوري على قوات تركية إلى إلغاء وزير الدفاع التركي خلوصي أكار مرافقته لأردوغان إلى أوكرانيا، ومسارعته إلى زيارة الحدود السورية، برفقة قادة من الجيش. وقال "على الشعب التركي أن يكون مطمئناً، فقد قمنا ونقوم بما يلزم تجاه هذا الاعتداء". وأعلن أكار أن القوات التركية "قصفت 54 هدفاً تابعاً للنظام السوري، وتم تحييد 76 جندياً من قوات النظام وفق معلومات حصلنا عليها من مصادر متعددة". وأشار إلى أنه رغم إبلاغ "المعنيين في الجانب الروسي بتحركات قواتنا في إدلب مرتين، إلا أن قواتنا تعرضت لإطلاق نار من جانب النظام السوري".
وبعد استهداف قوات النظام للقوات التركية بشكل مفاجئ، تضاربت المواقف التركية من الهجوم وأبعاده وأسبابه. ووفق مصادر مطلعة، فإن روسيا تحاول إجبار تركيا على التفاوض مع النظام، وهي أعطت الضوء الأخضر لتنفيذ الهجوم الذي قد يجبر أنقرة على التنسيق مع النظام، ما يعني اعترافاً بالأخير، من أجل جعل أي توافقات في المنطقة تتم بمباركة من النظام نفسه، ما يعيد تأهيله. وتتخوف أنقرة من هذا الأمر، وهي لا تريد محاورة النظام طالما أنها تتحاور مع مشغله، أي روسيا.
مصادر تركية أخرى، ربطت ما حصل في إدلب بالبعد المتعلق بزيارة أردوغان إلى أوكرانيا، التي أزعجت روسيا بشكل كبير. وربما تكون موسكو قد استغلت الظروف الحالية من أجل توجيه رسالة لأنقرة، خصوصاً أن وزارة الدفاع الروسية أعلنت أنها لم تكن على علم بتحرك القوات التركية، الأمر الذي كذّبته أنقرة التي جزمت بأنها أخطرت الجانب الروسي بالتحركات العسكرية سلفاً، ما يزيد الغموض والتضارب حيال ما حصل. وإزاء ما حدث من تطورات في المنطقة، تحدثت مصادر تركية ميدانية مطلعة عن أن الجانب التركي مصر على الخيار العسكري حالياً لتعزيز موقفه في المفاوضات مع روسيا، وهو يعمل على استغلال حادثة المواجهة مع قوات النظام واستهدافها القوات التركية لاستقدام مزيد من التعزيزات، والتأكيد أنه لا يمكن الاعتماد على النظام في أي مشروع مستقبلي. وتحاول تركيا حالياً المحافظة على الود الروسي من جهة، وضرب النظام من جهة ثانية، عبر إظهار أنه غير قادر على إدارة البلد لوحده، وإجباره على العودة إلى المسار السياسي بعد إكمال التوافقات في إدلب مجدداً، في ظل حديث عن انسداد بين المستويات العسكرية والسياسية التي تنتظر تحريكاً من رئيسي البلدين.
وقال أردوغان، أمس الإثنين، إن قوات بلاده تواصل الرد على هجوم لقوات النظام السوري، قتل فيه 5 جنود أتراك، بالإضافة إلى 3 مدنيين يرافقون القوات التركية، وأصيب تسعة، في محافظة إدلب. ودعا، في مؤتمر صحافي عقده في مطار أتاتورك في إسطنبول قبيل توجهه إلى أوكرانيا، الجانب الروسي إلى عدم وضع العراقيل أمام بلاده في الرد على قصف الجنود الأتراك في إدلب، وخاطب حكام موسكو بالقول: "لستم الطرف الذي نتعامل معه، بل النظام (السوري)، ونأمل ألا يتم وضع العراقيل أمامنا". ولفت الى أن "الضباط الأتراك يتواصلون مع نظرائهم الروس بشكل مكثف ونواصل عملياتنا استناداً لذلك"، مؤكداً أن "سلاح المدفعية وطائرات من طراز أف 16 تواصل الرد على قصف جنودنا في إدلب حتى اللحظة (صباح الإثنين)". وقال "تم حتى الآن تحييد نحو 35 عنصراً من النظام، حسب الإحصاءات الأولية"، مشدداً على تصميم بلاده على مواصلة عملياتها في سورية "من أجل ضمان أمن بلادنا وشعبنا وأمن أشقائنا في إدلب". وأوضح أن سلاح المدفعية التركية ردّ بـ122 رشقة، إلى جانب 100 قذيفة هاون، على 46 هدفاً للنظام السوري. واعتبر أن "من يختبرون عزيمة تركيا عبر هذه الهجمات الدنيئة سيعلمون أنهم يرتكبون خطأ كبيراً". من جهته، قال وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو، في تغريدة، إن "دماء شهدائنا لم ولن تذهب هباء".
واعتبر أردوغان، في كييف، أن التطورات في إدلب أصبحت خارج نطاق السيطرة، محذراً من أن "نحو مليون شخص في إدلب يتجهون صوب الحدود التركية نتيجة هجمات النظام، وروسيا تتغاضى عن ذلك". وأعلن أن "قوات النظام تخرق جميع الاتفاقيات وتستهدف نقاط المراقبة التركية". وفي حين أعرب أردوغان عن أمله في أن "يعي الجميع التزاماته في إطار اتفاقيتي أستانة وسوتشي ويواصل العمل في هذا الإطار"، اتفق وزيرا الخارجية الروسي سيرغي لافروف وتركيا مولود جاووش أوغلو، في اتصال هاتفي أمس، "على ضرورة احترام الاتفاق بشأن إدلب". وذكرت وزارة الخارجية الروسية، في بيان: "استعرض الطرفان مسار التسوية السورية بشكل شامل، مع إيلاء اهتمام خاص للوضع الحالي في منطقة خفض التصعيد في إدلب. كما تم تأكيد الحاجة إلى التقيد الصارم بالاتفاقيات الثنائية، التي تم التوصل إليها خلال اجتماع رئيسي روسيا وتركيا في 17 سبتمبر/أيلول 2018 في سوتشي". وأضاف البيان: "تم تأكيد أهمية الفصل السريع بين المعارضة المعتدلة والعناصر الإرهابية، والوقف الفوري لجميع أنواع الاستفزازات ضد المدنيين والقوات المسلحة السورية".
ونفت موسكو ما أورده أردوغان من معلومات حول مشاركة المقاتلات التركية في الرد على هجمات قوات النظام، محاولة تحميل أنقرة مسؤولية ما حدث. وذكر "المركز الروسي للمصالحة في سورية"، في بيان، أن "وحدات من القوات التركية قامت بتحركات داخل منطقة إدلب لخفض التصعيد، ليلة 2 ـ 3 فبراير/ شباط الحالي دون إخطار الجانب الروسي"، زاعماً أن القوات التركية "تعرضت لإطلاق نار من القوات الحكومية السورية استهدف الإرهابيين في المنطقة الواقعة غرب بلدة سراقب"، ما أدى إلى إصابة عدد من العسكريين الأتراك بجروح. وأكد أن القوات الروسية والقيادة التركية على تواصل مستمر عبر قنوات منع الصدام، وتم اتخاذ إجراءات لنقل المصابين إلى الأراضي التركية. وأشار البيان إلى أن "الأجواء فوق منطقة إدلب لخفض التصعيد تراقبها القوات الجوية الفضائية الروسية باستمرار"، مضيفاً أن "الطائرات الحربية التركية لم تخرق الحدود السورية، كما لم يتم تسجيل ضربات ضد مواقع القوات السورية".
ونفى المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية عمر جيليك، في تغريدة، تأكيد موسكو بأنها لم تُخطر بالتحركات قبل مقتل الجنود الأتراك. وأوضح أن "القول إن روسيا لم يتم إبلاغها غير صحيح. تركيا تقدم معلومات منتظمة وفورية لروسيا. كما أنها أبلغتهم بشأن هذه الواقعة الأخيرة. ليس صحيحاً القول إنه لم يتم تبادل المعلومات. تمت الاستعانة بالآليات القائمة كما هو الحال دائماً". ويأتي التكذيب الروسي لادعاءات الرئيس التركي، ضمن التباين في المواقف والرؤى بين أنقرة وموسكو. وأدى التصعيد إلى امتناع الجانب التركي عن المشاركة في دورية اعتيادية مشتركة مع الشرطة الروسية في شرقي الفرات، إذ حضر عناصر الدورية من الطرف الروسي، فيما امتنع الأتراك عن الحضور.
وأعلن المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أن الجيش الروسي لا يزال "على اتصال دائم" مع نظرائه الأتراك في سورية. وقال "ما زلنا نشعر بالقلق من أنشطة الجماعات المسلحة في هذه المنطقة من سورية". وقال "لم يجر اتصال هاتفي بين الرئيس (الروسي) فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان بعد حادث إطلاق الجيش السوري النار على قوات تركية في إدلب، لكن يمكن الاتفاق على إجراء مثل هذه المكالمة في أسرع وقت إذا اعتبر الرئيسان ذلك ضرورياً". كما أن طهران دخلت على خط الأزمة، معلنة دعمها للنظام السوري. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية عباس موسوي، أمس الإثنين، إنه "يحق للجيش السوري شن عمليات على أي أرض سورية تعرضت للاحتلال أو الإرهاب"، مطالباً جميع الدول "باحترام وحدة الأراضي السورية وأمنها القومي". وأضاف: "نتفهم قلق بعض الدول من العمليات العسكرية في إدلب لكن ينبغي السماح للشعب والحكومة السورية أن يقررا مصيرهما بنفسيهما". وأكد أن مسار أستانة هو الوحيد القادر على حل الأزمة السورية وينبغي الحفاظ عليه.
وكانت وزارة الدفاع التركية قد أعلنت سقوط قتلى وجرحى في قصف لقوات النظام في إدلب. وذكرت، في بيان، أنّ قواتها ردّت على الهجوم ودمّرت أهدافاً في منطقة إدلب، موضحة أن النظام السوري أطلق النار على القوات التركية المُرسلة إلى المنطقة من أجل منع نشوب اشتباكات في إدلب، على الرغم من أن مواقعها كانت منسقة مسبقاً. وقالت مصادر عسكرية من المعارضة السورية المسلحة، لـ"العربي الجديد"، إن "الجيش التركي سارع إلى الردّ مباشرة على مصدر إطلاق النار، وقصف بالمدفعية مواقع للنظام والمليشيات التابعة له في ناحيتي الصرمان وتل الطوقان، شرق سراقب". ورجحت المصادر أن قصفاً صاروخياً تركياً طاول معسكر جورين التابع لقوات النظام في ريف حماة الشمالي الغربي. وأشارت مصادر محلية إلى أن "المدفعية التركية المتمركزة بالقرب من معبر باب الهوى الحدودي استهدفت نقاط تمركز قوات النظام والمليشيات الموالية لها في منطقة البحوث العلمية وجبل عزان" بريف حلب الجنوبي.
وهذه ليست المرة الأولى التي يرد فيها الجيش التركي على استفزازات قوات النظام التي تحاصر 3 نقاط مراقبة تركية في شمال غربي سورية. وكانت القوات التركية قد ردت في يونيو/ حزيران الماضي على القصف الذي استهدف نقطة المراقبة التركية في شير مغار بجبل شحشبو بريف حماة الشمالي، والذي أدى الى مقتل جندي تركي. وذكرت وزارة الدفاع التركية، حينها، أنها وجهت "ضربات مؤثرة" إلى مواقع لقوات النظام في المنطقة. كما شهدت منطقة شرقي نهر الفرات اشتباكات بين الجيش التركي وقوات النظام، خصوصاً في ريف الحسكة الشمالي الغربي. وأسرت القوات التركية أواخر سبتمبر/ أيلول الماضي عدداً من عناصر قوات النظام السوري، قبل أن تفرج عنهم بوساطة روسية. وفي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، قتل عدد من عناصر قوات النظام بقصف تركي على بلدة تل تمر بريف الحسكة.
ورأى السياسي التركي المقرب من الحكومة يوسف كاتب أوغلو أن "الرد التركي لن يقتصر فقط على مصدر الاستهداف، وإنما سيكون لتأمين منطقة آمنة ومنع تقدم قوات النظام باتجاه تركيا". وقال كاتب أوغلو لـ"العربي الجديد"، إن "تركيا لن تكتفي بالرد بالمثل، وهنا النقطة المهمة، وهي ستستمر بالرد وستصعد، حتى تكون هناك منطقة آمنة للمدنيين. إن الهدف من التدخل التركي في سورية، وإدلب تحديداً، هو إيجاد منطقة آمنة بالمطلق كي لا يكون هناك تهديد لأمن تركيا القومي، وعدم إحداث تغيير ديمغرافي وهجرة معاكسة والحد من نزوح الملايين مرة أخرى من إدلب إلى تركيا. إن أنقرة ستفرض هذه المنطقة بالقوة بعدما حاولت دبلوماسياً وسياسياً ولكن جهودها فشلت في هذا الإطار، وكانت النتيجة الآلاف من الضحايا والمزيد من النازحين".
ورأى المحلل السياسي التركي أوكتاي يلماز، في حديث مع "العربي الجديد"، أن النظام السوري "ما كان ليتجرأ على قصف القوات التركية لولا ضوء أخضر من الجانب الروسي"، مشيراً إلى أن الموقف وصل إلى مرحلة خطيرة في الشمال الغربي من سورية. وقال يلماز: "حذر أردوغان مراراً وتكراراً النظام السوري من مغبة استهداف الجنود الأتراك في سورية، لكنه لم يعبأ بهذه التهديدات فجاء الرد التركي المناسب". واعتبر أن "النظام السوري يريد دفع ملايين السوريين إلى الداخل التركي لزعزعة استقرار البلد"، لافتاً إلى أن "أنقرة لن تسمح باستهداف جنودها، وفي حال حدوث ذلك مرة أخرى سيكون الرد التركي أقسى". واستبعد حدوث حرب بالوكالة بين الروس والأتراك في سورية، موضحاً أن "هذه الحرب في حال حدوثها ستستنزف الجميع. ننتظر من روسيا العودة إلى التفاهمات مع تركيا وإلزام النظام بذلك".
وقال القيادي في فصائل المعارضة السورية العقيد مصطفى البكور إنه "في مرحلة ما تجاوز الروس ما هو متفق عليه مع الأتراك، وبالتالي فإنه من الطبيعي أن تتوتر العلاقة بينهما". وأضاف، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "ما يتم تسريبه من أخبار عن ضغط أميركي على تركيا للانسحاب من مسار أستانة، والعودة إلى مسار جنيف، وتحسب الروس لإمكانية التجاوب التركي مع هذه الضغوط، ربما جعلهم يستعجلون العمل على إنهاء الوضع على الأرض لصالحهم، وبالتالي فإن هذا الأمر لا يناسب تركيا".
وقال مصدر عسكري، لـ"العربي الجديد"، إن قوات النظام تقدمت، أمس الإثنين، تحت غطاء مكثف من القصف المدفعي والجوي، وسيطرت على قرية سان الواقعة جنوب غرب مدينة سراقب. وبحسب المصدر، فإن قوات النظام بدأت بتوجيه ضرباتها نحو بلدة النيرب الواقعة غرب الطريق الدولي حلب اللاذقية، موضحاً أن مدينة سراقب ستكون معرضة للحصار في حال وصول قوات النظام إلى منطقة النيرب، حيث سيقطع الطريق بين أريحا وسراقب. ورفعت موسكو سقف تحديها لأنقرة، أمس الإثنين، إذ ارتكبت طائرات روسية مجزرة بحق أطفال ونساء نازحين في ريف حلب الغربي. وقال مراسل "العربي الجديد" إن الطيران الحربي الروسي استهدف حافلة تقل نازحين على طريق جمعية الرحال في ناحية كفرناها بريف حلب الغربي، ما أسفر عن مقتل تسعة مدنيين، بينهم أربعة أطفال وثلاث نساء. وأوضح مصدر من الدفاع المدني السوري، لمراسل "العربي الجديد"، أن القتلى جميعهم من عائلة واحدة، والقصف أصاب الحافلة بشكل مباشر، وقتل جميع من كانوا فيها. وجاءت المجزرة بالتزامن مع استمرار عمليات القصف التي يشنها النظام السوري على الأطراف الغربية من حلب، وعلى مدينة سراقب ومحيطها في ريف إدلب الشرقي، وسط معارك عنيفة مع فصائل المعارضة السورية المسلحة و"هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً).