الحصاد الأميركي والإيراني في مواجهات العراق

10 يناير 2020
يعيش العراق ظروفاً معقدة سبقت الاغتيال (حسين فالح/فرانس برس)
+ الخط -

انقلب السحر على الساحر، في بغداد هذه المرة. الصورة النمطية عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وكيف ردّت إدارته على النظام السوري في ضربةٍ منسقة مسبقاً على مطار الشعيرات العسكري في ريف حمص في إبريل/ نيسان 2017، انتقلت عدواها إلى صواريخ النظام الإيراني البالستية على قواعد عسكرية تمثل المصالح الأميركية في العراق، في ردٍّ لم يرتقِ إلى خطاب طهران التهديدي بعد مقتل قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني. كما مع انتهاء كل معركة، هناك تساؤلات عن حسابات الربح والخسارة، وما هو مصير هذه الدينامية المعقدة، من استحالة الحرب والتفاوض بين واشنطن وطهران.

هذه كانت محطة من محطات الاشتباك الإيراني - الأميركي في المنطقة الذي بدأ عام 2003. على الورق، هناك بلا شك رابحٌ رئيسي هو ترامب. قام بمغامرة بناءً على معلومات استخبارية ليست واضحة المعالم بعد، لاغتيال، ومن دون سابق إنذار، الرجل الأقوى في النظام الأمني الإيراني ومهندس توسع نفوذه في المشرق العربي. هذا الإجراء الراديكالي الأول من نوعه في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، تمكّن حتى الآن من استرجاع توازن الردع بين الطرفين، بعدما فرضت إيران سطوتها على الخليج واليمن والعراق خلال الفترة الماضية، رداً على الضغوط الأميركية لتصفير صادرات النفطية الإيرانية.

صورة صانع الصفقات التي أراد أن يطبعها ترامب على رئاسته، لم تنتج أي إنجاز دبلوماسي في السنوات الثلاث الأخيرة. ظلّ سجله في السياسة الخارجية فارغاً من الإنجازات الدبلوماسية، بعد فشل رهاناته في كوريا الشمالية وفنزويلا، وما يسمى بـ"صفقة القرن" بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبالتالي الصورة الجديدة التي يحاول تقمصها هي "قاتل الإرهابيين"، أو بتعبير أدق الرئيس القوي في قضايا الأمن القومي، الذي قتل في غضون أسابيع كلاً من زعيم تنظيم "داعش" أبو بكر البغدادي، وقاسم سليماني الذي تصنفه واشنطن بأنه إرهابي. وبذلك، يدخل ترامب الحملة الرئاسية مع هذا التفوق الانتخابي على منافسيه الديمقراطيين، حاملاً إرثاً مغايراً لإرث سلفه باراك أوباما، لا سيما إذا كان نائب الرئيس السابق جو بايدن هو المرشح المنافس في الانتخابات الرئاسية في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. التساؤلات حول المعلومات الاستخبارية التي بررت قتل سليماني قد تستمر في الكونغرس، لكن استيعاب واشنطن لأي تداعيات عسكرية محتملة لهذه العملية، قد يفوّت على الديمقراطيين فرصة انتقاد سياسة البيت الأبيض حيال إيران والتشكيك بصوابية قتل سليماني. هذا يعني كسب ترامب رهاناً بالحد الأدنى من الخسائر في السياسة الخارجية والحد الأقصى من الفوائد في السياسة الداخلية.

لكن يجب عدم المبالغة في الحسابات الانتخابية لترامب وراء مقتل سليماني أو ربطها حصراً بإجراءات العزل التي يواجهها الرئيس الأميركي في الكونغرس. التفكير داخل إدارة ترامب انتقل خلال المرحلة الأخيرة من التفكير بكيفية ردع إيران من دون الدخول بحرب معها، إلى اتخاذ قرار الردع، لا سيما في ظل التسريبات الأخيرة التي أظهرت دعم مديرة وكالة الاستخبارات المركزية جينا هاسبل، التي أبلغت ترامب بأن بقاء سليماني حيّاً أكثر خطورة من احتمال الرد الإيراني على قتله. المؤسسة الحاكمة في واشنطن، باستثناء البعض في البنتاغون، كانت داعمة لضرورة فرض توازن ردع مع إيران، واختار ترامب أكثر الخيارات تشدداً، في ظلّ تجانس جديد داخل الإدارة الأميركية، مع توسع نفوذ وزير الخارجية مايك بومبيو بمباركة نائب الرئيس مايك بنس. وكشف قتل سليماني مدى قدرة الأميركيين على تعقب تحركات واتصالات المسؤولين الإيرانيين، إذ كانت هناك تسريبات تتحدث عن علم واشنطن بأن المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي لم يعطِ موافقته على خطةٍ ما لسليماني للضغط على الطرف الأميركي أكثر من محاصرة السفارة في بغداد، لكن خامنئي طلب منه العودة إلى طهران للتشاور. هذه المعركة الاستخبارية بين البلدين ستتكثف على الأرجح أكثر في المرحلة المقبلة.


أبعد من ذلك، ليس واضحاً بعد كيف يمكن استثمار هذا التوازن الجديد للردع، في ظلّ عدم تبلور استراتيجية أميركية في المنطقة حتى الآن. قرار ترامب فرض عقوبات جديدة على النظام الإيراني كرد على ضرباته الأخيرة على قواعد عسكرية في العراق، يعني أن الرئيس الأميركي يعود إلى وسائل الضغط التقليدية على طهران. خطة ترامب الأولية كانت الضغط الاقتصادي على إيران بهدف ليّ ذراعها وتغيير حساباتها في ما يتعلق بتعديل الاتفاق النووي الحالي، لكن هذه المقاربة لم تحقق أهدافها وكادت تجر المنطقة إلى حافة الحرب.

مقتل سليماني يجعل القوات الأميركية في المنطقة أيضاً تعمل في ظروف غير مواتية، بعدما أعلن النظام الإيراني أن تركيز المرحلة المقبلة سيكون على إخراج القوات الأميركية من المنطقة، وهذا السيناريو الذي كانت تخشاه الإدارات الأميركية السابقة. هذه المهمة الإيرانية ليست سهلة، لكنها تأتي في ظلّ رئيس أميركي لا يمانع سحب جزء من أو إعادة تموضع القوات الأميركية في الشرق الأوسط. والظروف الإقليمية كانت معقدة أصلاً قبل قتل سليماني في ظلّ التظاهرات الشعبية في العراق ولبنان، وانسداد أفق الحلول السياسية في سورية واليمن وليبيا. ترامب شرّع الأبواب على مرحلة ضغوط سياسية على النفوذ الأميركي في العراق، وربما في لبنان، خلال المرحلة المقبلة، ولا توجد حتى الآن مقاربةٌ أميركية للتعامل مع هذه التحديات القادمة.

من جهتها، كسبت طهران جولات كثيرة سابقة ضد واشنطن، تمكنت فيها من ترويج سرديتها أن نفوذ أميركا في تراجع انحداري، وإدارتها تخشى التورط في حروب، والآن قبلت ضمنياً أن تخسر هذه الجولة عبر تفادي مواجهة كبيرة كانت ليس فقط مكلفة للنظام الإيراني، بل يمكن أن تكون لها تداعيات عكسية على وضعية أو أفضلية النفوذ الإيراني في المنطقة. مع أن قتل سليماني شكّل سابقة في تاريخ الاشتباك الأميركي - الإيراني، إلا أنها ليست المرة الأولى التي لا ترد فيها طهران أو وكلاؤها، وهذا يعيد إلى الذاكرة عدم رد النظام الإيراني أو "حزب الله" على مقتل عماد مغنية، القيادي في الحزب اللبناني، في سورية، في فبراير/ شباط 2008. إيران كانت وستظل تتفادى الحروب الكلاسيكية، وتفضل معارك النفس الطويل والاستنزاف عبر وكلائها في المنطقة، مع العلم أن خيارات الرد الإيراني قد تبقى محدودة في لبنان وسورية، نتيجة حسابات "حزب الله" الداخلية ودور موسكو في سورية.

العودة إلى مرحلة ما قبل سليماني لن تكون سلسة في ظلّ عدم الثقة المتزايد بين الطرفين، لكن هناك حرصاً من واشنطن وطهران على إبقاء القنوات الخلفية لعدم الوقوع في خطأ بالحسابات، في ظلّ انقطاع أي تواصل مباشر بين الطرفين منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض عام 2017. بعد قتل سليماني، أوصلت إدارة ترامب رسالة إلى النظام الإيراني عبر سويسرا أنها تتوقع أن يكون الرد متناسباً مع عملية القتل، واتبع الرئيس الأميركي هذه الرسالة بمواقف علنية، للتذكير بأن الخطوط الحمر هي مقتل أي مواطن أميركي، عسكري أو مدني. وردت طهران بالمثل مع إيصال رسالة إلى الأميركيين لحظة إطلاق الصواريخ البالستية، قبل إعلان وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في تغريدة عبر "تويتر" عن انتهاء رد الفعل الإيراني العسكري على قتل سليماني. تعكس هذه الرسائل المتبادلة حرصاً على تفادي الحرب، ورغبة بإبقاء الحد الأدنى من التواصل غير المباشر، وبالتالي هناك تساؤلات عما إذا كان هذا التوتر الأخير سيؤدي إلى اختراق محتمل في التفاوض النووي بين البلدين.

التحدي الرئيسي أن إدارة ترامب تمر بمرحلة حرجة داخلياً، في ظل انطلاق الحملة الرئاسية، كما يواجه النظام الإيراني احتجاجات شعبية نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية، وهذا ما جعل خيار الحرب مستبعداً بين الطرفين، لكنه يعيق أيضاً خيار التفاوض. من الصعب على النظام الإيراني فتح قنوات مباشرة مع الأميركيين ودم سليماني لم يجف بعد، حتى ولو أن هناك على ما يبدو صعوداً في دور وزير الخارجية محمد جواد ظريف، الذي يؤيد خيار التفاوض في حال كانت هناك ظروف مواتية. وترامب قد يحتار بين رغبته الأساسية بالتفاوض، والاحتفاظ بصورة من واجه إيران من دون قبول تسوية معها، وبالتالي من المستبعد إيجاد أي اختراق تفاوضي قبل موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية. طبيعة المرحلة لهذا العام قد تبقى لا حرب ولا تفاوض، مع مواجهة سياسية مضبوطة إذا دعت الحاجة في مناطق الصراع. لكن حتى لو كانت احتمالات التفاوض مستبعدة في المدى المنظور، يبقى التواصل المباشر خياراً محتوماً بين واشنطن وطهران، وما حصل من مواجهات أخيرة بينهما قد تكون عاملاً مساعداً على تسهيله عندما تنضج الظروف.




 

المساهمون