يكتنف الغموض مصير التطورات في العاصمة المصرية القاهرة وباقي المحافظات، بعد اندلاع أكبر احتجاجات شعبية ضد نظام عبد الفتاح السيسي منذ وصوله إلى الحكم في عام 2014، والتي حملت بوادر انتفاضة شاملة، لا سيما بعدما انكسر حاجز الخوف، الذي ظنّ النظام عبر ممارساته القمعية، بما في ذلك الزج بالآلاف في السجون، أنه تمكّن من فرضه، لتصل الرسالة بوضوح بأن الخلاص ممكن.
وصُدمت الأجهزة السيادية والأمنية بمشهد خروج التظاهرات العفوية بالمئات في محيط ميدان التحرير، لأكثر من 5 ساعات، والمسيرات، بعضها بالآلاف، في ميادين مختلفة في السويس والمحلة والمنصورة والإسكندرية، وصولاً إلى إسقاط صورة كبيرة للسيسي في ميدان الساعة في دمياط، لتقفز إلى الأذهان الصور الأولى للتظاهرات الشعبية، خلال ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، أو على الأقل تظاهرات ميدان الشون بالمحلة الشهيرة في 2008، تزامناً مع إضراب 6 إبريل/ نيسان الذي أسقطت فيه أيضاً صورة الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك بعد 27 عاماً من اعتلائه السلطة.
وتعرض نظام السيسي لهذه الهزة الشعبية الكبيرة جاء بعد أقل من 5 سنوات في السلطة، مارس فيها، على جميع المستويات، سياسات تضييق غير مسبوقة على حرية الإعلام والتعبير والتنظيم السياسي، ومنع إجراء انتخابات رئاسية أو برلمانية تتمتع بالحد الأدنى من النزاهة، وتعامل مع منافسيه المحتملين بالاعتقال أو تحديد الإقامة وتوجيه الاتهامات، وتحكم بشكل كامل في مجلس النواب، وشرع في إنشاء مجلس للشيوخ لمجاملة أنصار النظام، وأهدر خلالها استقلال القضاء، بتغيير نظام اختيار رؤسائه ليعينهم هو بذاته وفقاً لترشيحات الأجهزة الأمنية. كذلك استطاع التحكم في المجلس الأعلى للقوات المسلحة، من خلال تغيير جميع أعضائه، واختيار أعضاء جدد بمعايير معينة تلبّي حاجته إلى التأييد والدعم الدائمين، من دون معارضة أو حتى مراجعة ورقابة.
ويطرح هذا الخروج الجماهيري الكبير، والمتنوع من حيث الخلفيات الاقتصادية والفئوية، في ظل القمع السلطوي القائم والتضييق على وسائل الإعلام وإعدام القوى السياسية، تساؤلات عديدة عن مدى هشاشة النظام وعجزه عن التعامل مع وسائل الاتصال الحديثة، التي كانت وما زالت تمثّل صداعاً للسيسي وأجهزته منذ ثورة يناير. ولذلك أنفق نظامه مليارات الجنيهات على شراء برامج وتقنيات وأجهزة تُمكنه من إحكام الرقابة على صفحات ومجموعات مواقع التواصل الاجتماعي، والسيطرة على تطبيقات الاتصال الحديثة، بحجة مواجهة الإرهاب. وواكب ذلك توسع في وضع نصوص تشريعية عقابية مغلظة وغير مسبوقة في المنطقة، جزاء لاستخدام تلك الوسائل سياسياً، سواء للحشد الجماهيري أو تنوير المواطنين وإيصال الحقائق إليهم، في ظل تعتيم إعلامي نظامي كامل تحقق بتحكم النظام، ممثلاً في المخابرات العامة، بجميع الصحف والقنوات التلفزيونية، إذ بات يملك حصة الأغلبية في معظمها، ويهدد القلة القليلة الباقية خارج سيطرته الإدارية بالغلق ومنع الطبع، فضلاً عن عودة الصور القديمة للرقابة في المطابع والإشعار لإدارات الصحف بنشر مواضيع أو تناول أشكال بعينها.
اقــرأ أيضاً
كذلك تطرح هذه الاحتجاجات شكوكاً في السيطرة الكاملة للسيسي ودائرته، التي يقودها مدير المخابرات وساعده الأيمن عباس كامل، ونجل الرئيس، وكيل المخابرات محمود السيسي، على جميع الأجهزة السيادية والأمنية، وفي القلب منها الجيش والشرطة. فمنذ ظهور المقاول والممثل محمد علي مطلع الشهر الحالي ليبثّ مقاطع الفيديو التي تحمل شهادات من قلب فساد مشاريع الجيش والرئاسة، وتحول هذا الشهر إلى أيلول أسود على السيسي، الذي سقط في كمين المقاول، وتم استدراجه بنجاح إلى الرد عليه، وتأكيد أهم اتهاماته المتعلقة بإنفاق مليارات الجنيهات على مشاريع ترفيهية خاصة برئاسة الجمهورية، في وقت يعاني فيه المواطنون فقراً متفاقماً وغلاء فاحشاً وزيادة مطردة في أسعار السلع الأساسية والخدمات، بدعوى ضرورة التقشف والحدّ من الإنفاق الحكومي على الدعم. وظهر بشكل واضح أن تحركات محمد علي وغيره من النشطاء، على مستوى أقل شعبية، عبر مواقع التواصل، تحظى بدعم من داخل الدولة، وتحديداً من دائرة أو مجموعة مناوئة يمتدّ نفوذها بين المخابرات والجيش معاً.
وترجّح مصادر حكومية واسعة الاطلاع أن تكون تحالفات صغيرة بين عدد من قيادات المخابرات، الذين تمت إطاحتهم في السنوات الماضية، وبين عدد من ضباط الجيش الذين لاقوا نفس المصير، قد ساهمت في تشكيل هذه الدائرة أو المجموعة المناوئة للسيسي، أخذاً في الاعتبار أنه منذ عام 2015 وضع السيسي على عاتقه مهمة تطهير المخابرات من فلول رئيس الجهاز الأسبق عمر سليمان، والمشكوك في ولائهم له شخصياً، وليس للنظام. وصدر منذ ذلك الحين 20 قراراً جمهورياً بإحالة أكثر من 250 ضابطاً وموظفاً كبيراً للمعاش أو للعمل الإداري بجهات أخرى، كان من بينهم مسؤولون عن ملفات الحركات الإسلامية وجماعة "الإخوان المسلمين" والتواصل مع حركة "حماس" والشؤون السودانية والإثيوبية، والذين تمت إطاحتهم في عهد مدير الجهاز السابق خالد فوزي، الذي عيّن في ديسمبر/ كانون الأول 2014، وتم عزله في يناير/ كانون الثاني 2018 على خلفية الحراك السياسي لكل من رئيس الوزراء الأسبق أحمد شفيق ورئيس الأركان الأسبق سامي عنان، وعجز فوزي عن تحديد حركة وكلاء المخابرات الذين يتواصلون مع عنان لدفعه إلى إعلان ترشحه للرئاسة نكاية في السيسي، بحسب مصادر روت التفاصيل آنذاك لـ"العربي الجديد".
وتبدو قيادة الجيش حتى الآن في وضعية المراقب لما يحدث ولما قد يطرأ من تغيرات. ووفقاً للمصادر نفسها فإنه "من المبكر جداً تصنيف وزير الدفاع الحالي الفريق أول محمد زكي كشخصية يُمكن الرهان عليها لقلب نظام الحكم"، لكن في الوقت نفسه تكشف المصادر أن زكي "لم يستجب لمطالبات أرسلها له عباس كامل بإبداء مزيد من التأييد للسيسي" خلال الأيام الماضية، مكتفياً بظهوره الوحيد، حمّال الأوجه، في لقاء مع قادة وضباط صف وجنود قوات الصاعقة والمظلات، وهي القوات التي كان يقودها في الفترة بين 2009 و2012، حتى تم تعيينه قائداً للحرس الجمهوري. وقال زكي، خلال اللقاء، إن "القوات المسلحة كانت وستظل درعاً واقياً للوطن وحصناً منيعاً يصون ويحمي مقدراته، ورجالها على قلب رجل واحد يدافعون عن أمن مصر بأرواحهم ودمائهم ويضعون المصلحة العليا للوطن فوق كل اعتبار".
وترى المصادر أن وزير الدفاع يختار حتى الآن أن يبقى في دائرة الانتظار، لكن دون تعريض ما تبقى من سمعة الجيش للخطر بالاندفاع للدفاع عن السيسي، وخوفاً من تحركات داخلية غير مرغوبة، في ظل تصاعد حالة الغضب واللغط في صفوف الجيش، بسبب ما تناولته شهادات محمد علي وما تلاها من مواد مسجلة ومقروءة نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي من معلومات عن فساد مشاريع الجيش والهيئة الهندسية حالياً، وفي عهد رئيسها السابق ووزير النقل الحالي كامل الوزير. ودفع هذا الأمر السيسي وزكي إلى تشكيل لجان تحقيق داخلية بقرار من وزير الدفاع لمراجعة وضع بعض المشاريع وتجاوزات الضباط والمجندين المشرفين عليها، وكذلك مراجعة ملفات المقاولين المتعاقدين مع الهيئة الهندسية للجيش، ومجموعة من القيادات السابقين الذين يملكون هم وأبناؤهم شركات تتعامل مع القوات المسلحة، وصرف المستحقات المتأخرة لمئات المقاولين والموردين الذين كانوا يعملون مرغمين في مشاريع العاصمة الإدارية الجديدة والعلمين الجديدة وغيرها، رغم استمرار نشوء فروق مالية في العقود، بسبب توالي رفع أسعار الطاقة في السوق المحلية منذ تعويم الجنيه المصري في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016.
ويدعم هذه الرؤية ما رصدته "العربي الجديد"، أول من أمس، خلال التظاهرات من ظهور خجول للغاية لوحدات الشرطة العسكرية حول منطقة السفارات في غاردن سيتي بالقرب من ميدان التحرير، وعدم نشر أي وحدات عسكرية، أو مدرعات، سواء داخل المدن أو حتى في الطرق السريعة، وغيابها التام عن المشهد في المحافظات. وكشف مصدر أمني معلومة تدعم الموقف نفسه، وهي أن عباس كامل ومحمود السيسي طلبا من الجيش قبل اندلاع الأحداث تسيير طائرات على ارتفاع منخفض فوق العاصمة لتخويف المتظاهرين وإشعار المواطنين بأن الأمور تحت السيطرة، لكن هذا لم يحدث بالشكل المطلوب، وأن طائرتين فقط قامتا بطلعتين جويتين بالتزامن مع الأحداث لاستطلاع الموقف في الجيزة والقاهرة.
لكن هذا لا يمنع أن المخابرات الحربية، وهي الفرع العسكري الأكثر قرباً من دائرة السيسي بحكم انتمائه ونجله محمود وعباس كامل إليه، تقوم بدور كبير في مساعدة الدائرة على مراقبة مواقع التواصل الاجتماعي، ورصد الصفحات المعارضة، وتتبع العناصر المحرضة على التظاهر. وبحسب المصدر الأمني نفسه فإن المخابرات الحربية بدأت، أمس السبت، حملة لاعتقال عدد من المواطنين بتهمة التعرض للجيش والإساءة للضباط وبث الفتنة بين الجنود، باستخدام صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل.
ويبدو موقف الشرطة قريباً هذه المرة من موقف الجيش، فالتعامل الأمني الخجول مع التظاهرات يمكن تمييزه بسهولة إذا ما قورن بالتعامل الأمني مع التظاهرات المعارضة للتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير في عام 2016، أو التظاهرات العفوية ضد زيادة أسعار تذاكر مترو الأنفاق العام الماضي، حيث تم استخدام عدد محدود من القنابل المسيلة للدموع. كذلك تم الإفراج صباح أمس عن عشرات المتظاهرين من معسكري الأمن المركزي بالجبل الأحمر والسلام، بعد فحص أوراقهم وأخذ إذن الأمن الوطني، ولم تتم إحالة من تم أُفرج عنهم من معسكر الأمن المركزي بأكتوبر إلى النيابة العامة، في ظل تأكيد مصادر بالأمن العام أن هناك تعليمات من الأمن الوطني بعدم تحريك قضايا إلّا ضد الأشخاص المنتمين إلى حركات سياسية، خصوصاً جماعة "الإخوان المسلمين" والاشتراكيين الثوريين، وهم النسبة الأقل من المعتقلين، وأنه ما زال هناك أكثر من 100 معتقل قيد التحري، وتم نقل بعضهم صباح أمس إلى مقار الأمن الوطني بالقاهرة والجيزة للتحقيق المبدئي معهم. كذلك أحيل عدد محدود من المعتقلين في الإسكندرية إلى النيابة.
وتوضح المصادر الأمنية أن وزارة الداخلية، التي تأتمر بتعليمات اللواء أحمد جمال الدين، مستشار السيسي للشؤون الأمنية، تلقت تعليمات مساء الأربعاء الماضي بأن التخطيط للتعامل مع الموقف يوم الجمعة "من سلطة لجنة مخابراتية برئاسة محمود السيسي نفسه"، وأن هناك تعليمات واضحة صدرت عصر أول من أمس، عقب مغادرة السيسي القاهرة متوجهاً إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، بالابتعاد نهائياً عن الاحتكاك المباشر بالمتظاهرين والاشتباك معهم، والاكتفاء بمطاردتهم والتفتيش والاعتقال في محيط ميدان التحرير فقط، وإطلاق الخرطوش للتخويف وليس بغرض الإصابة إذا استمرت التظاهرات إلى منتصف الليل، وهو ما حدث بالفعل في بعض المحافظات على نطاق ضيق.
وتشير المصادر إلى أن الأعداد التي خرجت في المحافظات هي التي شكّلت مفاجأة للأجهزة السيادية والأمنية، ولذلك تأخر التعامل الأمني معها بسبب عدم قدرة محمود السيسي على اتخاذ قرارات "صعبة" بشأن التعامل الميداني من دون الرجوع لوالده، الذي كان في طريقه إلى نيويورك، خصوصاً أنه كانت هناك خطة أمنية واضحة فقط للتعامل مع محاولات اقتحام ميدان التحرير وليس للتصدي لباقي التظاهرات. وتؤكد المصادر أن المزاج العام داخل وزارة الداخلية يتجه إلى أن المعركة الدائرة في المشهد السياسي الآن "ليست معركة الداخلية"، وأن هناك فارقاً كبيراً بين الدور الذي كانت تضطلع به الشرطة في عهد مبارك وبين الوضع الحالي الذي تتراجع فيه أهميتها خلف دائرة السيسي والمخابرات والجيش، وبالتالي فإن كبار قيادات الوزارة، وعلى رأسهم مديرو أفرع الأمن الوطني، يفضلون "التريث" وانتظار ما ستؤول إليه الأوضاع في الجيش أولاً، واستيضاح ما إذا كان الحراك الشعبي والتحريض الدائر على مواقع التواصل الاجتماعي سيجتذب إليه، أو سيظهر أن خلفه، شخصية أو أكثر من الجيش تناوئ السيسي علناً.
لكن هناك رؤية أخرى، يدلي بها مصدر دبلوماسي متابع لتطورات الأوضاع في نيويورك. وقال، لـ"العربي الجديد"، إن التعامل "الهادئ" مع المتظاهرين سببه الرئيسي رغبة السيسي في عدم إثارة القلق أثناء حضوره اجتماعات الأمم المتحدة لتخفيف الضغوط والانتقادات التي بالتأكيد سيلقاها من الزعماء الأجانب والدوائر السياسية، الأميركية والأوروبية، هناك، لا سيما وأن عينه على تأكيد صورته كرئيس قوي يستطيع الحفاظ على موقعه دون الانجرار مرة أخرى إلى سيناريو الدماء، حتى لا يتكرر ما حدث في صيف 2013 في مذبحتي رابعة والنهضة والذي ما زال يلقي بظلاله على سمعته حتى الآن.
وصُدمت الأجهزة السيادية والأمنية بمشهد خروج التظاهرات العفوية بالمئات في محيط ميدان التحرير، لأكثر من 5 ساعات، والمسيرات، بعضها بالآلاف، في ميادين مختلفة في السويس والمحلة والمنصورة والإسكندرية، وصولاً إلى إسقاط صورة كبيرة للسيسي في ميدان الساعة في دمياط، لتقفز إلى الأذهان الصور الأولى للتظاهرات الشعبية، خلال ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، أو على الأقل تظاهرات ميدان الشون بالمحلة الشهيرة في 2008، تزامناً مع إضراب 6 إبريل/ نيسان الذي أسقطت فيه أيضاً صورة الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك بعد 27 عاماً من اعتلائه السلطة.
ويطرح هذا الخروج الجماهيري الكبير، والمتنوع من حيث الخلفيات الاقتصادية والفئوية، في ظل القمع السلطوي القائم والتضييق على وسائل الإعلام وإعدام القوى السياسية، تساؤلات عديدة عن مدى هشاشة النظام وعجزه عن التعامل مع وسائل الاتصال الحديثة، التي كانت وما زالت تمثّل صداعاً للسيسي وأجهزته منذ ثورة يناير. ولذلك أنفق نظامه مليارات الجنيهات على شراء برامج وتقنيات وأجهزة تُمكنه من إحكام الرقابة على صفحات ومجموعات مواقع التواصل الاجتماعي، والسيطرة على تطبيقات الاتصال الحديثة، بحجة مواجهة الإرهاب. وواكب ذلك توسع في وضع نصوص تشريعية عقابية مغلظة وغير مسبوقة في المنطقة، جزاء لاستخدام تلك الوسائل سياسياً، سواء للحشد الجماهيري أو تنوير المواطنين وإيصال الحقائق إليهم، في ظل تعتيم إعلامي نظامي كامل تحقق بتحكم النظام، ممثلاً في المخابرات العامة، بجميع الصحف والقنوات التلفزيونية، إذ بات يملك حصة الأغلبية في معظمها، ويهدد القلة القليلة الباقية خارج سيطرته الإدارية بالغلق ومنع الطبع، فضلاً عن عودة الصور القديمة للرقابة في المطابع والإشعار لإدارات الصحف بنشر مواضيع أو تناول أشكال بعينها.
كذلك تطرح هذه الاحتجاجات شكوكاً في السيطرة الكاملة للسيسي ودائرته، التي يقودها مدير المخابرات وساعده الأيمن عباس كامل، ونجل الرئيس، وكيل المخابرات محمود السيسي، على جميع الأجهزة السيادية والأمنية، وفي القلب منها الجيش والشرطة. فمنذ ظهور المقاول والممثل محمد علي مطلع الشهر الحالي ليبثّ مقاطع الفيديو التي تحمل شهادات من قلب فساد مشاريع الجيش والرئاسة، وتحول هذا الشهر إلى أيلول أسود على السيسي، الذي سقط في كمين المقاول، وتم استدراجه بنجاح إلى الرد عليه، وتأكيد أهم اتهاماته المتعلقة بإنفاق مليارات الجنيهات على مشاريع ترفيهية خاصة برئاسة الجمهورية، في وقت يعاني فيه المواطنون فقراً متفاقماً وغلاء فاحشاً وزيادة مطردة في أسعار السلع الأساسية والخدمات، بدعوى ضرورة التقشف والحدّ من الإنفاق الحكومي على الدعم. وظهر بشكل واضح أن تحركات محمد علي وغيره من النشطاء، على مستوى أقل شعبية، عبر مواقع التواصل، تحظى بدعم من داخل الدولة، وتحديداً من دائرة أو مجموعة مناوئة يمتدّ نفوذها بين المخابرات والجيش معاً.
وترجّح مصادر حكومية واسعة الاطلاع أن تكون تحالفات صغيرة بين عدد من قيادات المخابرات، الذين تمت إطاحتهم في السنوات الماضية، وبين عدد من ضباط الجيش الذين لاقوا نفس المصير، قد ساهمت في تشكيل هذه الدائرة أو المجموعة المناوئة للسيسي، أخذاً في الاعتبار أنه منذ عام 2015 وضع السيسي على عاتقه مهمة تطهير المخابرات من فلول رئيس الجهاز الأسبق عمر سليمان، والمشكوك في ولائهم له شخصياً، وليس للنظام. وصدر منذ ذلك الحين 20 قراراً جمهورياً بإحالة أكثر من 250 ضابطاً وموظفاً كبيراً للمعاش أو للعمل الإداري بجهات أخرى، كان من بينهم مسؤولون عن ملفات الحركات الإسلامية وجماعة "الإخوان المسلمين" والتواصل مع حركة "حماس" والشؤون السودانية والإثيوبية، والذين تمت إطاحتهم في عهد مدير الجهاز السابق خالد فوزي، الذي عيّن في ديسمبر/ كانون الأول 2014، وتم عزله في يناير/ كانون الثاني 2018 على خلفية الحراك السياسي لكل من رئيس الوزراء الأسبق أحمد شفيق ورئيس الأركان الأسبق سامي عنان، وعجز فوزي عن تحديد حركة وكلاء المخابرات الذين يتواصلون مع عنان لدفعه إلى إعلان ترشحه للرئاسة نكاية في السيسي، بحسب مصادر روت التفاصيل آنذاك لـ"العربي الجديد".
وترى المصادر أن وزير الدفاع يختار حتى الآن أن يبقى في دائرة الانتظار، لكن دون تعريض ما تبقى من سمعة الجيش للخطر بالاندفاع للدفاع عن السيسي، وخوفاً من تحركات داخلية غير مرغوبة، في ظل تصاعد حالة الغضب واللغط في صفوف الجيش، بسبب ما تناولته شهادات محمد علي وما تلاها من مواد مسجلة ومقروءة نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي من معلومات عن فساد مشاريع الجيش والهيئة الهندسية حالياً، وفي عهد رئيسها السابق ووزير النقل الحالي كامل الوزير. ودفع هذا الأمر السيسي وزكي إلى تشكيل لجان تحقيق داخلية بقرار من وزير الدفاع لمراجعة وضع بعض المشاريع وتجاوزات الضباط والمجندين المشرفين عليها، وكذلك مراجعة ملفات المقاولين المتعاقدين مع الهيئة الهندسية للجيش، ومجموعة من القيادات السابقين الذين يملكون هم وأبناؤهم شركات تتعامل مع القوات المسلحة، وصرف المستحقات المتأخرة لمئات المقاولين والموردين الذين كانوا يعملون مرغمين في مشاريع العاصمة الإدارية الجديدة والعلمين الجديدة وغيرها، رغم استمرار نشوء فروق مالية في العقود، بسبب توالي رفع أسعار الطاقة في السوق المحلية منذ تعويم الجنيه المصري في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016.
ويدعم هذه الرؤية ما رصدته "العربي الجديد"، أول من أمس، خلال التظاهرات من ظهور خجول للغاية لوحدات الشرطة العسكرية حول منطقة السفارات في غاردن سيتي بالقرب من ميدان التحرير، وعدم نشر أي وحدات عسكرية، أو مدرعات، سواء داخل المدن أو حتى في الطرق السريعة، وغيابها التام عن المشهد في المحافظات. وكشف مصدر أمني معلومة تدعم الموقف نفسه، وهي أن عباس كامل ومحمود السيسي طلبا من الجيش قبل اندلاع الأحداث تسيير طائرات على ارتفاع منخفض فوق العاصمة لتخويف المتظاهرين وإشعار المواطنين بأن الأمور تحت السيطرة، لكن هذا لم يحدث بالشكل المطلوب، وأن طائرتين فقط قامتا بطلعتين جويتين بالتزامن مع الأحداث لاستطلاع الموقف في الجيزة والقاهرة.
لكن هذا لا يمنع أن المخابرات الحربية، وهي الفرع العسكري الأكثر قرباً من دائرة السيسي بحكم انتمائه ونجله محمود وعباس كامل إليه، تقوم بدور كبير في مساعدة الدائرة على مراقبة مواقع التواصل الاجتماعي، ورصد الصفحات المعارضة، وتتبع العناصر المحرضة على التظاهر. وبحسب المصدر الأمني نفسه فإن المخابرات الحربية بدأت، أمس السبت، حملة لاعتقال عدد من المواطنين بتهمة التعرض للجيش والإساءة للضباط وبث الفتنة بين الجنود، باستخدام صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل.
وتوضح المصادر الأمنية أن وزارة الداخلية، التي تأتمر بتعليمات اللواء أحمد جمال الدين، مستشار السيسي للشؤون الأمنية، تلقت تعليمات مساء الأربعاء الماضي بأن التخطيط للتعامل مع الموقف يوم الجمعة "من سلطة لجنة مخابراتية برئاسة محمود السيسي نفسه"، وأن هناك تعليمات واضحة صدرت عصر أول من أمس، عقب مغادرة السيسي القاهرة متوجهاً إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، بالابتعاد نهائياً عن الاحتكاك المباشر بالمتظاهرين والاشتباك معهم، والاكتفاء بمطاردتهم والتفتيش والاعتقال في محيط ميدان التحرير فقط، وإطلاق الخرطوش للتخويف وليس بغرض الإصابة إذا استمرت التظاهرات إلى منتصف الليل، وهو ما حدث بالفعل في بعض المحافظات على نطاق ضيق.
وتشير المصادر إلى أن الأعداد التي خرجت في المحافظات هي التي شكّلت مفاجأة للأجهزة السيادية والأمنية، ولذلك تأخر التعامل الأمني معها بسبب عدم قدرة محمود السيسي على اتخاذ قرارات "صعبة" بشأن التعامل الميداني من دون الرجوع لوالده، الذي كان في طريقه إلى نيويورك، خصوصاً أنه كانت هناك خطة أمنية واضحة فقط للتعامل مع محاولات اقتحام ميدان التحرير وليس للتصدي لباقي التظاهرات. وتؤكد المصادر أن المزاج العام داخل وزارة الداخلية يتجه إلى أن المعركة الدائرة في المشهد السياسي الآن "ليست معركة الداخلية"، وأن هناك فارقاً كبيراً بين الدور الذي كانت تضطلع به الشرطة في عهد مبارك وبين الوضع الحالي الذي تتراجع فيه أهميتها خلف دائرة السيسي والمخابرات والجيش، وبالتالي فإن كبار قيادات الوزارة، وعلى رأسهم مديرو أفرع الأمن الوطني، يفضلون "التريث" وانتظار ما ستؤول إليه الأوضاع في الجيش أولاً، واستيضاح ما إذا كان الحراك الشعبي والتحريض الدائر على مواقع التواصل الاجتماعي سيجتذب إليه، أو سيظهر أن خلفه، شخصية أو أكثر من الجيش تناوئ السيسي علناً.
لكن هناك رؤية أخرى، يدلي بها مصدر دبلوماسي متابع لتطورات الأوضاع في نيويورك. وقال، لـ"العربي الجديد"، إن التعامل "الهادئ" مع المتظاهرين سببه الرئيسي رغبة السيسي في عدم إثارة القلق أثناء حضوره اجتماعات الأمم المتحدة لتخفيف الضغوط والانتقادات التي بالتأكيد سيلقاها من الزعماء الأجانب والدوائر السياسية، الأميركية والأوروبية، هناك، لا سيما وأن عينه على تأكيد صورته كرئيس قوي يستطيع الحفاظ على موقعه دون الانجرار مرة أخرى إلى سيناريو الدماء، حتى لا يتكرر ما حدث في صيف 2013 في مذبحتي رابعة والنهضة والذي ما زال يلقي بظلاله على سمعته حتى الآن.