عد تنازلي لانتخابات الإعادة بإسطنبول: انقسام الناخبين واستراتيجيات متباينة

04 يونيو 2019
لجأ "العدالة والتنمية" إلى تغيير لغة الخطاب (الأناضول)
+ الخط -
تكثّف الأحزاب التركية جهودها لاستمالة الناخبين، مع بدء العدّ التنازلي لإعادة الانتخابات المحلية في مدينة إسطنبول المقررة في 23 يونيو/ حزيران الحالي، وذلك بعد قرار إلغاء نتائج انتخابات 31 مارس/ آذار الماضي على مستوى رئاسة البلدية الكبرى، على خلفية طعن حزب "العدالة والتنمية" الحاكم بنتائجها، مع تفوّق مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو على مرشح الحزب الحاكم بن علي يلدريم، بفارق أكثر من 13 ألف صوت. وهو فارق يعتبر ضئيلاً قياساً إلى عدد الناخبين في المدينة، والبالغ أكثر من 10 ملايين ونصف المليون ناخب.

وبعد أن أدّى مرشح المعارضة عن حزب "الشعب الجمهوري"، بدعم من تحالف الشعب الذي يضمّ حزب "السعادة" المحافظ، و"الحزب الجيد" القومي، وأحزاب علمانية أخرى، مهامه رئيساً لبلدية إسطنبول الكبرى لمدة 18 يوماً، أعلنت الهيئة العليا للانتخابات في 6 مايو/ أيار الماضي إلغاء النتائج، وسحب وثيقة فوز إمام أوغلو بالانتخابات، بحجة مخالفات ترتبط باختيار اللجان الاقتراعية ورؤسائها من ملاك القطاع العام، ووجود جداول من دون توقيع، معتبرةً أن ذلك يؤثر في نتائج الانتخابات. وهو القرار الذي أفرح الحزب الحاكم وحلفاءه في التحالف الجمهوري، وعلى رأسهم حزب "الحركة القومية" اليميني المتطرف، وحزب "الوحدة الكبرى"، في وقت وجّهت المعارضة سهامها باتجاه الهيئة العليا للانتخابات، على اعتبار أنها وقعت تحت تأثير الرئيس رجب طيب أردوغان الذي ضغط باتجاه إعادة الانتخابات.

وتكتسب انتخابات إسطنبول أهمية كبرى بالنسبة لأردوغان، إذ إنه انطلق منها في حياته السياسية في عام 1994، وبقيت المدينة في قبضة الأحزاب المحافظة منذ 25 عاماً، منها 17 عاماً بيد "العدالة والتنمية". ومع فقدان العاصمة أنقرة في الانتخابات الأخيرة، فإنّ فقدان إسطنبول شكّل ضربة قوية للحزب الحاكم، على الرغم من أنه لم يشهد انخفاضاً كبيراً في عدد ناخبيه، ولكن فقدان كبرى المدن التركية والخزان السياسي والاقتصادي، منح المعارضة تفوّقاً نادراً، دفعها للتمسّك بالنتائج والتفاؤل بانتخابات الإعادة.

وكان واضحاً تأثير الصوت الكردي في تغليب الكفة لصالح المعارضة، ما دعا الطرفين إلى أخذ هذا العامل بعين الاعتبار في تشكيل استراتيجيتهما لانتخابات الإعادة، وذلك بعد أن أُعلنت القائمة النهائية للمرشحين، وهم 4 عن الأحزاب السياسية و17 مستقلاً، إذ قدّم حزب السعادة نجدت غوكجنار كمرشّح عنه، فيما رشّح حزب "الوطن" مصطفى إيلكر يوجل، إضافة إلى مرشحي "العدالة والتنمية" بن علي يلدريم، و"الشعب الجمهوري" أكرم إمام أوغلو.

ومع تكشّف نتائج الانتخابات، حلّل كل طرف أسباب فشله ونجاحه، وبناءً على ذلك، بنى استراتيجياته الجديدة. فأردوغان أعلن يوم الانتخابات أنّ الرسائل وصلت، مقرّاً بحصول أخطاء في الحملات الانتخابية، في حين برز إمام أوغلو كشخصية قيادية قادرة على أنّ تقود المعارضة وتكون مرشحها المستقبلي لانتخابات عام 2023.

وبدأ حزب العدالة والتنمية حملته أخيراً لانتخابات الإعادة باستراتيجية جديدة قائمة على زيارة الناخبين في بيوتهم، ولقائهم وتشجيعهم على انتخاب مرشّحه، وهي استراتيجية كان قد لجأ إليها أردوغان في عام 1994. كذلك عمد الحزب الحاكم إلى التواصل مع الناخبين الذين لم يصوتوا في الانتخابات السابقة، ويتوقع أنّ 70 في المائة منهم من ناخبي "العدالة والتنمية". كذلك ذهب الحزب إلى أبعد من ذلك، بالتواصل مع أقارب أبناء مدينة إسطنبول الذين تعود أصولهم إلى ولايات أخرى، والتواصل مع الجمعيات ونواب البرلمان، من أجل التأثير عليهم، وكسب أصواتهم.


ومن الاستراتيجيات الأخرى التي لجأ إليها "العدالة والتنمية" هي تغيير لغة الخطاب، من خلال عدم ربط فوز الحزب ببقاء الدولة، وعدم استبعاد الآخرين، وعدم استخدام لغة استقطاب، بل الاعتماد على لغة تحتضن الجميع، ومنها اللغة التي تستميل الناخبين الأكراد، ولا سيما المحافظين منهم. ومن هنا، ربما يكون هناك تأثير أو ارتباط بين السماح لرئيس حزب "العمال" الكردستاني، عبد الله أوجلان، بلقاء محاميه بعد 8 سنوات من حظر ذلك، ورسائله الإيجابية لأنصاره، ومساعي الحزب الحاكم لاستمالة الناخبين الأكراد.

ومن أهم الاستراتيجيات الأخرى لـ"العدالة والتنمية" هي مخاطبة إمام أوغلو على أنه مرشح الشعب الجمهوري، من دون تناول اسمه وإشهاره، وترك المنافسة لأن تكون بين الحزبين، للدلالة على إنجازات كل طرف في وجدان الشعب التركي. ويصبّ كل ذلك في صالح نقاط القوة لـ"العدالة والتنمية"، ولكن ذلك لا يلغي وجود نقاط ضعف، يتمثّل أهمها في التشكيك بقرار إعادة الانتخابات. وعليه، فإنّه يتوجّب على الحزب الحاكم إقناع الناخبين بمبررات قرار الهيئة العليا للانتخابات، وتبرير مقولات الحزب بأنّ انتخابات مارس/ آذار الماضي شهدت سرقة أصوات "العدالة والتنمية".

على الجهة المقابلة، استفادت المعارضة التركية من كونها حقّقت فوزاً تاريخياً بجمع مختلف أطياف المعارضة غير المتجانسة ما بين محافظين ويساريين وعلمانيين وليبراليين وقوميين، تحت شعار واحد، هو هزيمة "العدالة والتنمية"، فضلاً عن نجاحها في استمالة حزب "الشعوب الديمقراطي" الكردي، وكذلك استفادتها من فترة التشكيك في نتائج الانتخابات التي ساهمت في لمعان نجم إمام أوغلو. ولذلك، بنت استراتيجيتها على نقطتين، الأولى على المظلومية التي تعرّضت لها بقرار الإعادة غير المقنع للانتخابات، وتسلّط الحزب الحاكم على قرارات مؤسسة يجب أن تكون مستقلة وقضائية، بحسب وصف المعارضة، والثانية على شخصية إمام أوغلو التي برزت كزعيم قيادي بديل، بعد أن شهدت الساحة السياسية التركية على مدار سنوات حكم "العدالة والتنمية" فشل المعارضة في إبراز أي قيادي عنها. وتعوّل المعارضة على شخصية إمام أوغلو وتأثيرها على الناخبين المحافظين، إذ فشل "الشعب الجمهوري" في الحصول على أصوات المحافظين الإسلاميين في تركيا خلال السنوات السابقة.

ويعتبر شعار المظلومية وشخصية إمام أوغلو نقاط قوة المعارضة، فيما تبقى نقاط ضعفها متمثلة في عدم انسجام أطرافها، وتذبذب الناخبين الأكراد، بتأثير من حزب "الشعوب الديمقراطي"، الذي دائماً ما يميل تجاه مصالحه، وربما يتسبب بخسارة إمام أوغلو.

وفيما أعدت الأحزاب التركية استراتيجياتها لاستمالة الناخبين يبدو الانقسام في الشارع واضحاً إزاء انتخابات الإعادة. ورفضت المواطنة التركية سلمى ديدا، في حديث مع "العربي الجديد"، قرار الإعادة المتّخذ من قبل الهيئة العليا للانتخابات، على اعتبار أنّ "الانتخابات في السنوات السابقة شهدت حوادث مشابهة لم تتحرك بها الهيئة العليا في محاباة للحزب الحاكم". واعتبرت أنه "كان الأحرى أنّ يتقبّل حزب العدالة والتنمية النتائج، ويعمل وفقها على إصلاح سياساته التي شهدت تراجعات كبيرة، وخصوصاً في الميدان الاقتصادي".
واتفق المواطن سركان شاهن مع ما ذهبت إليه مواطنته، معتبراً أنه "يتوجّب على العدالة والتنمية أن يحترم آراء الشعب"، مؤكداً أنّ "إمام أوغلو شخصية جيدة كان يجب منحه الفرصة لإثبات نفسه، فإمّا ينجح أو يفشل، ويكون القرار بيد الشارع التركي نفسه".

في المقابل، قال المواطن التركي سميح قير إنّه "يؤيّد قرار إعادة الانتخابات، نظراً لما شابها من تجاوزات من جهة، والفارق القليل في النتائج من جهة ثانية"، معتبراً أنّ "هذا الفارق القليل يؤدي إلى شبهات كبيرة، وعليه فإنّ الشارع هو الحكم بعد تلافي التجاوزات، وتعيين لجان اقتراعية موثوق بها".

بدوره، اتهم المواطن علي جيرن "جهات معارضة تقف ضدّ الدولة (في إشارة إلى جماعة الخدمة التي يتزعمها الداعية فتح الله غولن) بمواصلة تأثيرها على الحياة السياسية في تركيا، والتدخّل في الانتخابات لقلب حكم العدالة والتنمية، من خلال التجاوزات التي رافقت الانتخابات المحلية"، متمنياً أن "تكون الانتخابات المقبلة نزيهة مائة بالمائة، بغض النظر عن الفائز، وذلك لكي تفوز الديمقراطية التركية"، على حد تعبيره.