الحوثيون وتطبيق اتفاق استوكهولم: هل انتهى زمن نكث الاتفاقات؟

17 مايو 2019
أكدت الأمم المتحدة تسليم الحوثيين الموانئ الثلاثة(فرانس برس)
+ الخط -





على نحو مفاجئ، قرر الحوثيون يوم السبت 11 مايو/أيار الحالي الانسحاب من الموانئ الثلاثة في الساحل الغربي لليمن، الحديدة ورأس عيسى والصليف، وإعادة انتشارهم في المدينة، تماشياً مع بنود المرحلة الأولى من التفاهمات التي تم التوصل إليها برعاية أممية بموجب اتفاق استوكهولم الموقّع في 13 ديسمبر/كانون الأول الماضي. وهو الاتفاق الذي تضمّن بنوداً لم تكن واضحة في غالبيتها وكانت محل إشكال عطّلت تنفيذه 6 أشهر.
بدورها، شكّكت الحكومة الشرعية منذ اللحظة الأولى في جدية الحوثيين. بالنسبة إليها، إن ما يجري ليس أكثر من تكرار لنفس آلية العمل "الحوثية"، من ناحية تسليم المناطق الخاضعة لسيطرة الجماعة إلى عناصر تابعين لسلطتهم؛ أي أن الأمر يقتصر على تبديل الملابس من مدنية إلى عسكرية، خصوصاً أن العناصر يأتون من منطقة صعدة (مسقط رأس عبد الملك الحوثي، زعيم الجماعة) بعد إتمام عملية تأهيلهم وتدريبهم على أمر التعامل مع مساحات المدن وطريقة التصرّف فيها، على مستوى الشكل أولاً وعلى طريقة التعامل مع المدنيين ثانياً. كما اعتبرت الحكومة أن ما يجري ليس سوى مسرحية تستبق من خلالها الجماعة انعقاد جلسة مجلس الأمن المخصصة لليمن، التي انعقدت مساء الأربعاء، والتي تخللتها إشادة بانسحاب الحوثيين وشكر مباشر من المبعوث الأممي إلى اليمن مارتن غريفيث لزعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي على "تعاونه"، فضلاً عن شكره الحكومة اليمنية والرئيس عبد ربه منصور هادي على الالتزام بتنفيذ اتفاق استوكهولم، لتحقق بذلك الجماعة استراتيجيتها القائمة على القدرة على إيجاد منفذ من كل مأزق تقع فيه.

من جهتها، أعلنت الأمم المتحدة أن انسحاب جماعة الحوثي صار حقيقياً، ومسار الأحداث حتى اللحظة، يشي أيضاً بأن الجماعة ملتزمة بإعادة الانتشار، لا سيما بعد أن قال رئيس بعثة الأمم المتحدة المكلف بتنفيذ وقف إطلاق النار في الحديدة، الجنرال مايكل لوليسغارد، إن "انسحاب القوات المقاتلة للحوثيين من المنطقة قد يبدأ في غضون شهر حال الانتهاء من وضع خطة". وأضاف: "ضباط الاتصال من الطرف الآخر، سيأتون إلى ميناء الحديدة، وسيصلون إلى رأس عيسى، وإلى الصليف (أي الموانئ الثلاثة)، لمعرفة ما إذا كانت الخنادق قد نقلت ولن يبقى سوى خفر السواحل في الميناء، لذلك سيتم التحقق بعد ذلك". وتشمل المرحلة الأولى من الاتفاق الانسحاب من الموانئ إلى جانب تسليم خرائط الألغام المزروعة من قبل الجماعة للأمم المتحدة ونزع الألغام والمتفجرات، على أن تنسحب القوات الموالية للحكومة من مثلث كيلو 8، وتقدم بدورها خرائط الألغام والمتفجرات. كما أن المفاوضات التي استضافتها العاصمة الأردنية عمّان، برعاية أممية، من أجل البحث في قضايا اقتصادية ومنها إدارة الإيرادات من الموانئ الثلاثة واستخدامها لدفع رواتب القطاع العام في محافظة الحديدة وفي جميع أنحاء البلاد، ترفع من حظوظ الالتزام.

لكن السؤال الأبرز يكمن في ما وراء مسارعة الحوثيين إلى تسليم موانئ الحديدة. التوقيت يثير الكثير من الشكوك. الجماعة لا تتعرض لضغوط في الميدان بل تتقدم في جبهات جديدة. والوضع الإقليمي ينذر بتوترات متصاعدة نتيجة ما يجري بين إيران وأميركا، والجماعة ليست بعيدة عن كل ذلك بل انخرطت مباشرة باستهداف مضختي نفط داخل الأراضي السعودية بطائرات مسيرة. فما الذي يجري؟ هل كانت الجماعة تخطط فقط لتمرير جلسة مجلس الأمن من دون انتقادات لها وستنتظر فترة وجيزة، قبل أن تعود إلى الواجهة في الموانئ الثلاثة أم أنها تعلمت من أخطائها، مكرّسة التغيير في سلوكها؟


في السياق، يقول صحافي يمني، يقيم في صنعاء وعايش فترة اجتياح الحوثيين العاصمة بالاتفاق مع قوّات الرئيس الراحل علي عبد الله صالح في صيف عام 2014، إن "الحوثيين جماعة لا تحترم المواثيق التي تقوم بالتوقيع عليها". ويضيف في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "الجماعة انقلبت على علي عبد الله صالح نفسه وأردته قتيلاً، وهو الذي سمح لها بدخول العاصمة صنعاء بعد أن أتاح لها كل سلاح الدولة".

مسألة نكث المواثيق والعهود ليست بجديدة على جماعة "أنصار الله". هناك سيرة طويلة كان شاهداً عليها جميع المبعوثين الدوليين، الذين تعاقبوا على اليمن منذ بداية الأزمة ووصول الممثل الأُممي الأول إلى اليمن المغربي جمال بن عمر، مروراً بالموريتاني إسماعيل ولد الشيخ أحمد (الذي أصبح وزيراً لخارجية موريتانيا)، وصولاً إلى المبعوث البريطاني مارتن غريفيث.

البداية من عمران
شكلت مدينة عمران (شمال صنعاء) بداية نكث العهود. شهدت المدينة معارك عدة منذ فبراير/شباط 2014، قبل أن يسيطر عليها الحوثيون في يوليو/تموز 2014 وعمدوا إلى تصفية قائد اللواء 310 مدرع القيادي العميد حميد القشيبي، الذي كان يُنظر إليه على أنه من حزب التجمع اليمني للإصلاح ومقرب من علي محسن الأحمر (الذي يتولى الآن منصب نائب رئيس الجمهورية عبد ربه منصور هادي ويقيم في الرياض). اتُهم صالح ببيع معسكر القشيبي لجماعة الحوثي، وقيل يومها إن جنوداً قتلى من جماعة الحوثي كانوا يحملون أسلحة خاصة لا تملكها غير قوّات الحرس الجمهوري. لكن الرئيس الراحل لم يكن المتهم الوحيد، إذ قُتل القشيبي بعد أن توقفت عملية الإمداد العسكرية لمقر قيادته. لقد حدث هذا بعد اتفاق وقف إطلاق النار وهدنة تم الإعلان عنها يوم 22 يونيو/حزيران 2014. لكن الحوثيين لم يلتزموا بها، فيما أبقى الجيش معكسر القشيبي من دون إمدادات ليتركه يقاتل الحوثيين وحيداً قبل تصفيته.

ذهب هادي لعزاء أبناء القشيبي وإن لم يحضر التشييع الرسمي الذي أقيم له في صنعاء، إلا أنه توجه في اليوم نفسه إلى مدينة عمران وأعلن من هناك أنها "عادت إلى حضن الدولة"، وتحدث عن اتفاق "على الانسحاب من المحافظة من كافة الأطراف والجماعات المسلحة، وبسط نفوذ الدولة وقيام السلطة المحلية بواجبها في تنفيذ المشاريع الخدمية والتنموية".


قيل الكثير يومها عما جرى ووجهت اتهامات عدة لهادي. وبالنسبة إلى كثر، كانت القصة أقرب إلى نوع من العبث ولم تكن مُصدّقة من غالبية اليمنيين، لكن ما حدث لم يكن سوى البداية. سرعان ما ضرب الحوثيون عرض الحائط بالاتفاق القاضي بالانسحاب من عمران، ليبدأوا مخطط اجتياح العاصمة صنعاء، متخذين من رفع أسعار المشتقات النفطية ذريعة لذلك.

محاولات المبعوث الأممي، في ذلك الحين، جمال بن عمر للتفاوض مع الجماعة وعدم إهدار فرصة التوافق عقب الحوار الوطني الذي كان جزءاً من مسار المرحلة الانتقالية، كانت أقرب إلى فرصة استخدمها الحوثيون لكسب الوقت لمواصلة استعداداتهم لاجتياح العاصمة التي سقطت بشكل سريع في أيدي مسلحي أنصار الله في 21 سبتمبر/أيلول 2014.

في اليوم نفسه، تم توقيع اتفاق السلم والشراكة لإنهاء الأزمة برعاية بن عمر. ضم الاتفاق يومها بنوداً عدة صب معظمها لصالح تحقيق مطالب الحوثيين، بما في ذلك تشكيل حكومة جديدة وإبعاد رئيس الحكومة في ذلك الحين محمد سالم باسندوة، وتخفيض أسعار المحروقات، وتعيين مستشارين لهادي من جماعة الحوثيين، وإصلاح الجيش، وتنفيذ مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الذي كان قد انتهى في يناير/كانون الثاني 2014 في مقابل وقف إطلاق النار في العاصمة وبقية المحافظات.

لكن كل ذلك تبخر بعد فترة. استغرق الأمر بضعة أشهر قبل انقلاب الجماعة على الاتفاق وتجدد المواجهات في قلب العاصمة وإسقاط الحوثيين القصر الرئاسي ثم محاصرتهم منزل الرئيس الانتقالي عبد ربه منصور هادي ووضعه في الإقامة الجبرية منذ 21 يناير/ 2015، ما دفعه للاستقالة مع الحكومة في اليوم التالي. وبعد ذلك بشهر، نجح هادي في الهروب إلى عدن. وعقب ذلك، تواصل المد العسكري الحوثي حتى وصل إلى مدينة عدن في الجنوب، ليظهر بوضوح أن اتفاق السلم والشراكة ما كان إلا وقتاً مستقطعاً أرادته الجماعة لترتيب أوضاعها في العاصمة وإنجاز التجهيزات العسكرية، مستفيدة من وضع يدها على عتاد الجيش اليمني ووصل خطوط إمدادها قبل استكمال هدفها بالسيطرة على جميع محافظات البلاد. لكن هذه المخططات اصطدمت ببداية "عاصفة الحزم" وتدخل التحالف السعودي الإماراتي في اليمن منذ 25 مارس/آذار 2015 حتى اليوم.


للحرب والمفاوضات قصة أخرى

يمكن لرصد ميداني إظهار عدد المرات التي كان يتم التوصل فيها إلى هدن ولو مؤقتة على جبهات القتال الممتدة، من أقصى شمال اليمن إلى جنوبه والتي عادت لتُخرق من قبل الحوثيين طوال سنوات الحرب التي تسير في عامها الخامس. مع العلم أن القوات الموالية للشرعية إلى جانب التحالف لم تكفّ بدورها عن خرق اتفاقات عدة. في موازاة المعارك الميدانية وضجيجها، يمكن القول إن "أنصار الله" هم الأكثر استفادة من حرب التحالف السعودي الإماراتي في اليمن. لقد صار لهم تلك القوّة المُعترف بها من الأمم المتحدة والكثير من الدول وتحولوا إلى جماعة يتم التفاوض معها ويلتقي بممثليها مسؤولو العديد من الدول بينهم وزراء خارجية.

وتحقق ذلك للحوثيين بداية من اللحظة التي دخلوا فيها بشراكة مع نظام علي عبد الله صالح وذهبوا في جماعة تفاوضية واحدة إلى محادثات جنيف في سويسرا، في 28 مايو/ أيار 2015 في مقابل الحكومة اليمنية. وتكرر الأمر نفسه في جولة جنيف 2 التي عقدت في مدينة بيل في ديسمبر/كانون الأول 2015. وكلتاهما لم تسفرا عن اختراق يؤدي إلى حل يوقف الحرب على الرغم من الجهود التي بذلها المبعوث الأممي إسماعيل ولد الشيخ أحمد. بعد ذلك، حصلت مفاوضات الكويت لأكثر من جولة، وكان قد حصل تأخير من جهة "أنصار الله" في الحضور إلى المفاوضات بحجّة عدم الاتفاق على الهدنة ووقف إطلاق النار، لكن ممثليها حضروا في نهاية الأمر.

وحضر الاختلاف مجدداً هنا في مسألة تشكيل اللجنة العسكرية الأمنية والمرحلة الانتقالية، كما والسلطة التنفيذية لهيئة رئاسة الجمهورية والحكومة التوافقية التي كان من المفترض تشكيلها. لكن تركيز جماعة "أنصار الله" كان بالدرجة الأولى على تشكيل حكومة توافقية، وهو كان بمثابة الأمر المستحيل في وقتها. حينها كان بعض وزراء الحكومة لا يزالون في سجون الحوثيين في العاصمة صنعاء. وفوق ذلك، كان الخلاف الأكبر حول ضرورة تسليم الجماعة لسلاحها بحسب قرارات مجلس الأمن، لكن تعنت الجماعة قاد إلى انتهاء الجلسات بلا شيء وتعثرت مطولاً جهود الأمم المتحدة في إعادة جمع الأطراف اليمنية.


في هذه الفترة الفاصلة بين انتهاء مشاورات الكويت ومحاولات إحياء المفاوضات بين الحوثيين والحكومة، تفرّغت الجماعة لتصفية الحساب المؤجل بينها وبين صالح بعد التحالف الكبير بينهما، والذي بموجبه تمكنت بمساندة عبر قوّات الحرس الجمهوري، الذي كان تابعاً لابنه أحمد علي عبد الله صالح المقيم في الإمارات، من الدخول إلى صنعاء واجتياح المدن اليمنية وصولاً إلى عدن، قبل أن تضطر للانسحاب إلى المناطق الشمالية بعد تدخّل قوّات التحالف.

ظهر أن عبد الملك الحوثي، زعيم جماعة "أنصار الله"، لم يضع ذكرى شقيقه حسين بدر الدين الحوثي وراء ظهره، وهو الذي قُتل في عام 2004 على يد جماعة صالح، على الرغم من كل ما قدمه الأخير للحوثيين من خدمات. تصفية صالح في 4 ديسمبر/كانون الأول 2017 شكلت وجهاً آخر لكيفية نكث الحوثيين تعهداتهم، إذ إن قتله أتى بعد نحو عام ونصف العام من تشكيل المجلس السياسي الأعلى، وهو التالي للجنة الثورية العليا لتقاسم السلطة بين الحوثيين وحزب صالح في المناطق الخاضعة لسيطرتهما. لكن الجماعة التي تحالفت مع صالح منذ دخول عمران وصنعاء لم تستطع تقبل الشراكة طويلاً معه، وانتهزت الفرصة عندما سنحت لها للتخلص منه متخذة من توتر العلاقة بين الطرفين وطلبه مفاوضات مع السعودية الذريعة لذلك.

اتفاق السويد: مرحلة جديدة
بعد قرابة عام من تصفية صالح وأشهر طويلة من تولي المبعوث الأممي الجديد مارتن غريفيث مهماته خلفاً لولد الشيخ أحمد، تمكن أخيراً من جمع الحكومة والحوثيين في السويد في ديسمبر 2018 بعدما تعطل انطلاق محادثات جنيف في سبتمبر 2018. لقد استثمروا مسألة ضمان الطيران المُباشر إلى السويد لضمان عدم تكرار ما حصل في سبتمبر عندما قام التحالف السعودي الإماراتي بحجز طائرة الوفد الحوثي المفاوض لأكثر من مرة في أكثر من مطار وكان آخرها في جيبوتي. ومن ثم منع عودة الوفد إلى صنعاء، وقاموا بالانتفاع من خلاله. وهنا تظهر قدرة "أنصار الله" على نيل مكاسب إلى أبعد مدى. لقد اشترطوا على غريفيث أن تكون مجموعة من الجرحى الحوثيين معهم في الطائرة. وقد حصل لهم ذلك. أما خلال أيام المفاوضات، فلم يكن نهج الجماعة مختلفاً. وظف الحوثيون التطورات لصالحهم. يومها كان التحالف السعودي الإماراتي يتعرض لضغوط دولية عدة ليس بسبب مجازره التي لا تتوقف باليمن فقط، بل نتيجة جريمة قتل الإعلامي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية المملكة في إسطنبول وتوجيه أصابع الاتهام مباشرة إلى ولي العهد السعودي. الأمر الذي دعا الرياض للتجاوب مع ضرورة إنجاح المفاوضات لا سيما أن الإدارة الأميركية كانت قد حددت أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2018 مهلة شهر للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في اليمن واستئناف المفاوضات. وترجمت الرغبة السعودية بالتجاوب مع الضغوط من خلال الإيعاز لوفد الحكومة اليمنية بالتجاوب مع ما تطرحه الأمم المتحدة وضرورة الخروج باتفاق بأي ثمن. وهو ما تم بالفعل، إذ أعلن في 13 ديسمبر 2018 التوصل إلى اتفاق حول ميناء الحديدة وتخفيف التوتر في تعز، من دون أن تكون آليات تطبيق التفاهمات واضحة خصوصاً أنها صيغت على عجل وتحت الضغط.

هكذا ظهر، يومها، أن الوفد الحكومي هو الطرف الأضعف في المسألة، في حين بدت جماعة "أنصار الله" نفسها في الجهة القوية قبل أن توظف ضبابية التفاهمات للمماطلة في تنفيذ البنود على مدى 6 أشهر كاملة، ثم تقرر قبل أيام تطبيق المرحلة الأولى من اتفاق الحديدة، ليبقى التساؤل الأهم ما إذا كانت الجماعة ستلتزم بباقي الفقرات أم أنها ستعود إلى نكث وعودها مرة أخرى كما اعتادت منذ 2014.