انتخابات بريطانيا: تفويض شعبي لجونسون في "بريكست"

14 ديسمبر 2019
وصف ماكرون فوز جونسون بـ"لحظة الوضوح"(فيكتوريا جونز/فرانس برس)
+ الخط -

لم يكن رئيس الوزراء البريطاني، زعيم حزب المحافظين، بوريس جونسون، ينتظر نتيجة أفضل من التي أسفرت عنها الانتخابات البرلمانية المبكرة التي شهدتها بريطانيا أول من أمس الخميس، وانتهت بفوز الحزب بأغلبية برلمانية تعد الأكبر له منذ عام 1987 أيام مارغريت ثاتشر، في مقابل تعرّض حزب العمال لهزيمة قاسية حطمت موجة التفاؤل التي جلبها جيريمي كوربن إلى صفوفه وناخبيه. وفيما لم يكن نصر المحافظين مفاجئا، إلا أن غير المتوقع كان حجم الأغلبية البرلمانية التي حصل عليها حزب جونسون، وبلغت 364 مقعداً في البرلمان الجديد، لتعني عملياً حسم مصير الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، والانقسام السياسي في البرلمان البريطاني، الذي تلا الانتخابات السابقة عام 2017، وهو ما بدا بإعلان جونسون سريعاً بتنفيذ الخروج من الاتحاد الأوروبي "في موعده" في 31 يناير/كانون الثاني المقبل، مندّداً بأكثر من ثلاثة أعوام من الجدالات السياسية بشأن بريكست. وكما سيكون لهذه النتائج تداعيات كبيرة على الداخل البريطاني، فإنه يرتقب ما ستحمله من انعكاسات على علاقة لندن بجيرانه والعالم.

بعد فرز أصوات معظم الدوائر الانتخابية، حصل حزب المحافظين على 364 مقعداً في البرلمان الجديد، بزيادة 67 مقعداً عن البرلمان السابق. أما حزب العمال فقد خسر 42 مقعداً ليتراجع تمثيله في البرلمان الجديد إلى 203 نواب فقط. وبينما فشل الديمقراطيون الليبراليون من الاستفادة من الزخم السياسي الذي بنوه الصيف الماضي، إذ تراجع تمثيلهم من 21 نائباً إلى 11 فقط، فقد تمكن القوميون الاسكتلنديون من تعزيز موقعهم ورفع تمثيلهم في البرلمان من 35 إلى 48 نائباً. أما حزب الخضر فحافظ على مقعده الوحيد، كما حافظ حزب ويلز على مقاعده الأربعة، وفشل حزب بريكست في دخول البرلمان. أما في إيرلندا الشمالية، فكسب حزب الشين فين مقعداً إضافياً، ليرفع حصته إلى سبعة مقاعد، لا يشارك ممثلوها في جلسات برلمان لندن، بينما خسر الاتحادي الديمقراطي، حليف المحافظين، مقعدين ليتراجع تمثيله إلى 8 مقاعد فقط.

وقال جونسون صباح أمس الجمعة بعد الإعلان عن فوزه بمقعده في أوكسبريدج "في هذه المرحلة يبدو أن هذه الحكومة المحافظة نالت تفويضاً جديداً وقوياً ليس لإنجاز بريكست فحسب، ولكن لتوحيد البلاد والنهوض بها". وأضاف "أعتقد أن هذه الانتخابات ستكون تاريخية، وستمنحنا الآن، في هذه الحكومة الجديدة، فرصة احترام الإرادة الديمقراطية للشعب البريطاني لتغيير هذه البلاد للأفضل ولإطلاق إمكانات شعب هذا البلد بأكمله".

وبعد أسابيع من الحملات الانتخابية الحامية، اختار البريطانيون الإنصات إلى رسالة جونسون "بتطبيق بريكست"، بما أثبت أولوية الخروج من الاتحاد الأوروبي لديهم مقابل تركيز كوربن على الإصلاحات اليسارية الراديكالية داخلياً.

ولا تقتصر أهمية هذه النتائج على مدى نجاح المحافظين، بقدر ما تحمله من تبعات كارثية على حزب العمال. وتشير النتائج الإجمالية إلى أن المحافظين كسبوا 43.6 في المائة من الأصوات، بصعود يقارب نقطة مئوية وحيدة فقط مقارنة بانتخابات عام 2017، عندما حصلوا على تأييد 42.3 من أصوات الناخبين. ولكن تأييد العمال تراجع إلى 32.2 في المائة في هذه الانتخابات من نحو 40 في المائة التي حصدها عام 2017. وكان الأثر الأكبر لتراجع تأييد العمال في الهزائم التي تلقاها في معاقله التقليدية في شمال إنكلترا وويلز، والتي صوتت لصالح بريكست عام 2016. بل إن ما يوصف بـ"الجدار الأحمر"، وهو معاقل العمال في شمال إنكلترا والتي تفصل بين المناطق الوسطى الإنكليزية المؤيدة للمحافظين واسكتلندا، انهار لصالح المحافظين، في نتائج تعد الأسوأ للحزب منذ عام 1935. حتى أن الدوائر التي حافظ عليها العمال في تلك المناطق شهدت تراجعاً كبيراً في تأييده بنحو 10 نقاط. بينما لم تكن حظوظه أكثر إيجابية في الدوائر التي تعارض بريكست، إذ تراجع تأييده فيها بنحو ستّ نقاط.



وتُلقي هذه الانتخابات أيضاً بظلال نتائجها العمالية القاتمة على مستقبل الحزب. فقد فشل "العمال" في الفوز بأي من الانتخابات الأربعة التي جرت منذ عام 2010. بينما كانت حكومات طوني بلير وخليفته غوردون براون بين عامي 1997 و2010 المرحلة العمالية الوحيدة في العقود الأربعة الماضية. وبينما أعلن كوربن عزمه الاستقالة من زعامة الحزب، إلا أنه لم يحدد موعدا، ناوياً البقاء في منصبه في مرحلة إعادة استكشاف الذات العمالية. وأقر كوربن بأن الليلة كانت "مخيبة بشدة للآمال" مضيفاً بعد أن حافظ على مقعده شمال لندن "هذه قطعاً ليلة مخيبة جداً للآمال بالنسبة لحزب العمال والنتيجة التي حصلنا عليها." وأضاف "لن أقود الحزب في أي حملة للانتخابات العامة المقبلة"، مستدركاً أنه سيقود الحزب في الوقت الذي يناقش فيه مستقبله.

وتبرز أسباب عدة وراء النصر المحافظ والفشل العمالي، وعلى رأسها مسألة بريكست. فقد تبنّى جونسون "تطبيق بريكست" كرسالة مركزية في حملته الانتخابية، وهو ما وجد له صدى بين الناخبين البريطانيين الذي يرغبون بحسم مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي وقلقهم من عدم قدرة البرلمان السابق على حسم القرار. بينما كان موقف العمال من بريكست متردداً، ويدفع باتجاه المزيد من الغموض. بل إن بساطة الرسالة المحافظة في الانتخابات تغلّبت على الوعود العمالية الكبرى. ففي وقتٍ وعد فيه جونسون بتطبيق بريكست وزيادة أعداد الشرطة وطواقم التمريض، استجابة للهواجس الأساسية لدى الناخبين، كانت وعود كوربن بالتأميم الواسع للخدمات العامة، والاستفتاء الثاني على بريكست وغيرها من السياسات اليسارية. واختار الناخب البريطاني الاستجابة للحلول البسيطة الآنية لمشاكله الحالية بدلاً من الوقوف خلف "ثورة عمالية".

وساهم في الهزيمة أيضاً الضعف العمالي. فتأييد المحافظين لم يرتفع كثيراً بين الناخبين البريطانيين، بقدر انهيار التأييد العمالي، والذي كان إما بسبب العزوف عن التصويت أو هجرة الأصوات لصالح حزب بريكست. وفي المقابل، ضخ جونسون طاقة جديدة في حزب المحافظين، ونجح في استعادة تأييد القواعد المحافظة التي اتجهت لتأييد حزب بريكست. وكانت استطلاعات الرأي منذ وصول جونسون إلى رئاسة الوزراء تضعه وحزبه باضطراد في مقدمة السياسة البريطانية.



أما الأحزاب البريطانية الأخرى، فتراوحت حظوظها أيضاً. فقد نجح الحزب القومي الاسكتلندي في تعزيز موقعه بعدما كسب 48 مقعداً من أصل 59 في اسكتلندا، وهي نتيجة وإن لم تكن الأفضل في تاريخه، إلا أنها إشارة قوية على تأييد الشارع الاسكتلندي لرسالة حزب نيكولا ستورجن المعارض لبريكست والمؤيد للاستقلال. وسيعزز ذلك من موقف الاسكتلنديين القوميين المطالب بالمزيد من الحكم الذاتي في إدنبره ويسعى لتنظيم استفتاء على الاستقلال عن بريطانيا. كما نجح القوميون الاسكتلنديون في الحصول على الدائرة الانتخابية (إيست دنبارتونشاير) التي تمثلها جو سوينسون، زعيمة الديمقراطيين الليبراليين، وذلك بعد تغلب مرشحهم على سوينسون بفارق أقل من 150 صوتاً.

ويعد الديمقراطيون الليبراليون من أكبر الخاسرين في هذه الانتخابات. فعدا عن خسارة زعيمة الحزب مقعدها، واستقالتها من رئاسته، فإنه يواجه أزمة مصيرية بعد فشله في تعزيز موقعه في الدوائر المعارضة لبريكست. وكان الحزب قد نال زخماً سياسياً كبيراً العام الحالي عندما نجح في التموضع في الوسط السياسي بين العمال والمحافظين، وتبنى رسالة معارضة لبريكست، وتضخّمت صفوفه من 12 إلى 21 مقعداً. ولكن انتخابات الخميس منحته 11 مقعداً فقط، إضافة إلى خسارة النواب المنشقين عن العمال والمحافظين، والذين انضموا إلى الديمقراطيين الليبراليين الصيف الماضي، لدوائرهم التي نافسوا فيها.

أما حزب بريكست، بزعامة نايجل فاراج، فقد فشل في الدخول إلى البرلمان البريطاني، مما عزز من صورته كحزب اعتراضي، حاله شبيهة بحزب الاستقلال في انتخابات عامي 2015 و2017، والذي قاده فاراج أيضاً. وخدم الحزب عملياً كظاهرة يلجأ إليها لليمين المحافظ المعارض لأوروبا، كلما توجّه المحافظون نحو يمين الوسط. وأدى سعي المحافظين للحفاظ على قواعدهم وسحب البساط من تحت أقدام فاراج، إلى تطرف المحافظين نحو اليمين السياسي.

أما حزب الخضر وحزب ويلز فحافظا على مقاعدهما كما هي بلا تغيير. بينما شهدت إيرلندا الشمالية خسارة الحزب الاتحادي الديمقراطي، حليف جونسون سابقاً، لمقعدين لتتراجع حصته إلى 8 مقاعد. وكان الخاسر الأكبر في هذا التحول نايجل دودز، زعيم كتلة الحزب في برلمان ويستمنستر، إذ خسر مقعده لحزب شين فين المؤيد للجمهورية الإيرلندية، والذي لا يشارك نوابه في جلسات البرلمان البريطاني، رفضاً منهم لأداء القسم بالولاء لملكة بريطانيا.

وبلا شك تعد هذه الانتخابات زلزالاً ستكون تبعاته في البرلمان البريطاني الذي سيُقسم أعضاؤه اليمين يوم الثلاثاء المقبل. فأحزاب المعارضة ستدخل البرلمان منزوعة الأنياب التي مكنتها من عرقلة عمل حكومات تيريزا ماي وبوريس جونسون. بينما سيدخل جونسون ويستمنستر منتصراً بدعم الشارع البريطاني لرسالته التي كررها مراراً في مجلس العموم في ضرورة "تطبيق بريكست". كما قد يسعى جونسون لاستغلال موسم الأعياد قبل نهاية العام الحالي لإقرار اتفاق بريكست في البرلمان. وينتظر أن يقوم بتعديلات طفيفة على تشكيلة حكومته يوم الاثنين المقبل، تشمل استبدال الوزراء الذين خسروا مقاعدهم في الانتخابات، مقابل إجراء تعديلات أوسع بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي. بينما قد يشهد الخميس المقبل خطاباً جديداً للملكة إليزابيث الثانية تفتتح من خلاله أعمال البرلمان الجديد.

وستسمح الأغلبية المحافظة لجونسون بالمضي قدماً في رؤيته للمفاوضات التجارية مع الاتحاد الأوروبي، والتي ستكون عنوان عام 2020. ويجادل العديدون بأن 11 شهراً التالية لموعد بريكست، وموعد نهاية الفترة الانتقالية في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2020، ليست كافية لإقرار هذا الاتفاق. إلا أن جونسون يستطيع بأغلبيته في البرلمان عدم تمديد الفترة الانتقالية، والخروج بسيناريو مشابه لبريكست بلا اتفاق من تحت عباءة القوانين الأوروبية التي ستلتزم بها بريطانيا في هذه الفترة. بل إن استقراراً سياسياً في بريطانيا في السنوات الخمس المقبلة سيمنح المحافظين الفرصة لتمرير المزيد من السياسات الخاصة بهم، والتي تتراوح بين اتفاقيات تجارة حرة مع الولايات المتحدة والدول الآسيوية، إلى خصخصة للمزيد من الخدمات العامة، وتطبيق نظام هجرة جديد، وإعادة هيكلة النظام الضريبي بما يتناسب مع رؤيتهم للاقتصاد البريطاني، وذلك عدا عن رؤيتهم للسياسات الاجتماعية. وربما سيؤدي نجاح المحافظين في هذه السنوات الخمس إلى تعزيز موقعهم الانتخابي عام 2024، خصوصاً إذا فشل العمال في التعافي من أزمته الحالية.



إلا أن حزب المحافظين الذي يقوده جونسون حالياً يختلف عن الحزب الذي تزعّمه أول من أمس. فعلى الرغم من تعهده بتطبيق سياسات "الأمة الواحدة" المحافظة الوسطية، فإن النواب الجدد لا ينتمون للتيار العقائدي الليبرالي الذي ينتمي إليه جونسون، إنما لتيار قومي إنكليزي، مؤيد لمشروع بريكست انكفائي. وسيكون هذا الخلاف في صفوف المحافظين القيد الوحيد على حرية جونسون في السنوات المقبلة، إن أراد الحفاظ على تمثيل هذه المقاعد.

في المواقف الدولية، أظهرت أوروبا واقعية حذرة بفوز جونسون، فقد اعتبرت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون ديرلاين، أن مهلة التفاوض على العلاقات المستقبلية مع لندن تطرح "تحدياً كبيراً". أما رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال الذي يمثّل الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، فقال إن الاتحاد "مستعدّ" للتفاوض بشأن العلاقة المستقبلية مع لندن، وسنتفاوض بشأن اتفاق تجاري يتيح التوصل إلى قواعد منصفة". من جهته، أكد المفوّض الأوروبي الجديد للسوق الموحّدة والرقمية تياري بروتون، رغبة المفوضية الأوروبية في "إعادة بناء علاقات جديدة" مع لندن، خصوصاً في القطاع التجاري.

وفي برلين، أعربت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، عن أملها في التعاون عن قرب مع جونسون وذكرت في تغريدة على "تويتر": "تهانينا بوريس جونسون على هذا الفوز الواضح في الانتخابات. أتطلع لمزيد من التعاون باتّجاه الصداقة والشراكة الوثيقة بين بلدينا". لكنها اعتبرت ان "بريطانيا ستكون منافساً على أبوابنا بعد بريكست". أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فاعتبر أن فوز ماكرون "سمح بمجيء زمن الوضوح".

بدوره هنأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب، جونسون على فوزه "الرائع"، معتبراً أن ذلك سيفتح المجال لإبرام اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة. وكتب ترامب في تغريدة على "تويتر": "بريطانيا والولايات المتحدة ستصبحان الآن حرّتين في إبرام اتفاق تجاري جديد وهائل بعد بريكست".

أما الكرملين فرأى أنّ موسكو تشك بإمكانية تحسّن العلاقات مع لندن، بعد الخلافات المتكررة بين الطرفين والفضيحة المرتبطة بمحاولة تسميم عميل سابق. وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف للصحافيين: "نأمل بأن تلتزم القوى التي تفوز بالانتخابات في أي بلد بالحوار والتركيز على بناء علاقات جيدة مع بلدنا. لكنني لا أعرف مدى إمكانية ذلك في حالة المحافظين" في بريطانيا.

بدوره هنأ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، جونسون قائلاً: "تهاني لصديقي بوريس جونسون على فوز تاريخي. هذا يوم كبير للشعب البريطاني وللصداقة بيننا". كما هنأ زعيم تحالف "كاحول لفان" بيني غانتس في تغريدة على "تويتر" جونسون، منتقداً في الوقت عينه كوربن قائلاً "إن نتائج الانتخابات التي خسر فيها جيريمي كوربن، "الذي سمح للمعادين للسامية بالظهور في حزبه، هي أخبار جيدة لإسرائيل".