بين تحدي إرضاء الناخبين والحفاظ على التوازنات الداخلية، والخشية من إعادة الانتخابات التشريعية في تونس، وجدت الأحزاب الفائزة في هذه الانتخابات نفسها أمام مأزق تشكيل الحكومة. ولا شك في أن الإعادة الجزئية للانتخابات في دائرة ألمانيا (الدائرة الانتخابية المخصصة للجالية التونسية في ألمانيا)، وتأخر الإعلان عن نتائجها النهائية لما يقرب الشهر، منح حركة "النهضة"، المتصدرة في "التشريعيات"، مهلة إضافية من أجل تدارس خياراتها في ما يتعلق بتشكيل الحكومة التي قررت ترؤسها، تفادياً لسيناريو الفشل وتبعاته.
وكانت ملامح المأزق السياسي قد بدت بوضوح منذ الساعات الأولى التي تلت الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات التشريعية، فلا "النهضة" تمكنت من الحصول على الأغلبية البرلمانية اللازمة لتشكيل الحكومة وتمرير مشاريع القوانين (109 مقاعد) من دون الحاجة لتشكيل الائتلافات وبناء التحالفات مع أي طرف، ولا بقية الأطراف حصلت على الثلث المعطل لتُكوّن كتلة معارضة قوية، ما زاد من ضبابية المشهد وتشرذم القوى السياسية داخل البرلمان الجديد.
ويبدو الوضع حالياً مراوحاً بين تقاذف المسؤولية بين "النهضة" من جهة، والأطراف الأخرى التي لم تستثنها الحركة من قائمة حلفائها المستقبليين، من جهة ثانية، ما اعتبره مراقبون استهانة بحساسية الموقف، وبين التخويف من شبح إعادة الانتخابات التشريعية إذا ما تعذر تشكيل الحكومة. وترتفع الخشية من السيناريو الأخير، خصوصاً مع النزعة العقابية للتصويت، وعدم استقرار الخزانات الانتخابية.
وفيما سعت "النهضة" لإظهار القوى المتمثّلة في حركة "الشعب" و"التيار الديمقراطي" بمظهر الهارب من مسؤولية الحكم والتشبث المبدئي بالمعارضة، ردت الأخيرة بدعوة ملحّة للحركة إلى التزام تطبيق الدستور وتشكيل حكومة بنفسها وقيادتها، وتحمل أعباء الحكم وحدها هذه المرة، من دون شراكات أو تحالفات. وبحسب هذه القوى، فإن هذا الخيار لن يمنعها من منح الثقة للحكومة، للحؤول دون إدخال البلاد في أزمة تحت ضغط الأجل الدستوري وإمكانية إعادة الانتخابات خلال أربعة أشهر، وهو موقف تبناه "التيار الديمقراطي" و"ائتلاف الكرامة".
ويدعم التخوّفات من انقضاء الأجل الدستوري من دون الوصول إلى تشكيل الحكومة، الخزان الانتخابي المتحرك لأغلب الأطياف السياسية وتوجّهه نحو معاقبة مكوّنات منظومة ما بعد 14 يناير/ كانون الثاني 2011. فحتى "النهضة" تآكلت قاعدتها وتقلص حجمها نيابياً، فيما تراجعت بعض مكوّنات الساحة السياسية واندثر بعضها الآخر، وترافق ذلك مع بروز تشكيلات حزبية وائتلافية أخرى. هذه الإشارات كانت بمثابة الإنذار الأخير للأطراف الفائزة في الانتخابات البرلمانية، بأن الإخفاق في تشكيل الحكومة وأخذ الدولة إلى حالة الشلل، قد يؤديان إلى عقاب شعبي.
ورضخت حركة "النهضة" إلى الدعوات التي وجهت إليها بأن تتولى رئاسة الحكومة والانطلاق في الاستشارات، وهو ما أقرّه مجلس شوراها الذي عُقد قبل أيام. واستكمالاً للنهج ذاته، أعلنت الحركة في بيانٍ صادر عن مكتبها التنفيذي مواصلتها للأسبوع الثاني على التوالي اتصالاتها مع عدد من الشخصيات الوطنية وممثلي الأحزاب السياسية وفاعلين سياسيين لبلورة تصور أولي لبرنامج الحكومة المقبلة. والتقى رئيس الحركة راشد الغنوشي رئيس الجمهورية قيس سعيّد يوم الجمعة الماضي، وقدّم له نتائج هذه الاتصالات.
ومن المرجح أن تقبل "النهضة" بإعادة الانتخابات إذا ما تعذّر عليها تشكيل الحكومة، مع استحالة ذهابها في اتجاه تشكيل حكومة بمفردها ومن دون شركاء. وفي هذا السياق، أكد القيادي في الحركة، نائب رئيس مكتب الإعلام فيها، خليل البرعومي، لـ"العربي الجديد"، التزام "النهضة" بنتائج الانتخابات التي لم تسند إليها أغلبية في البرلمان حتى تتمكن من تشكيل حكومة بمفردها، موضحاً أنه "حتى بالأرقام، فإن إمكانية نيلها الثقة مستبعدة للغاية، كما أنها لا يمكن أن تعتمد المرور بقوة نحو الحكم منفردة بالنظر إلى النتائج التي أحرزتها". واعتبر البرعومي أنه "ينبغي على بقية الأطراف الفائزة، باستثناء "قلب تونس" و"الحزب الدستوري الحر"، تحمّل مسؤوليتها في وضع تصورات حلول للأزمة، وعبر شراكة حقيقية، خلال المرحلة المقبلة".
أما بالنسبة إلى أسوأ الحالات، وفق البرعومي، فإنه "إذا استحال تشكيل حكومة، فستبحث النهضة في إجراء انتخابات مبكرة، وهي فرضية لا ترغب في أن تصبح واقعاً"، لافتاً إلى "أنها واردة، لكن يبقى الحديث عنها سابقاً لأوانه، إذ تريد النهضة احترام إرادة الناخبين في تشكيل الحكومة على أساس برنامج اقتصادي واجتماعي، وحتى مالي في ما له علاقة بموازنة 2020".
وفي هذا السياق، أوضح القيادي في "النهضة" أن البرنامج الذي ستنطلق منه الحركة يرتكز على خمس نقاط أساسية يمكن تعديلها على ضوء النقاش مع الأطراف المعنية بتشكيل الحكومة، وتتمثل في استكمال مؤسسات الدولة والمؤسسات الدستورية ومكافحة الفساد وتعزيز الأمن والحوكمة ومقاومة الفقر ودعم الفئات الهشة والنهوض بنسق الاستثمار والتشغيل وتطوير التعليم والصحة والمرافق العامة.
ويرى متابعون في تحديد "النهضة" هذه النقاط كأرضية حوار جامعة، درءاً لمخاوف حلفائها المحتملين من أي تحالف غامض لا يعتمد على أهداف محددة وبرنامج عمل واضح. وبدا موقف هذه الأحزاب التي شرعت "النهضة" في الاتصال بها صارماً في هذا الصدد، وسط تأكيد قياداتها أن التحالف مع الحركة أقرب للمستحيل، وأنها ملزمة بتحمّل مسؤولياتها إثر فوزها في الانتخابات.
ورأت القيادية في "التيار الديمقراطي"، سامية عبّو، في تصريح إعلامي، أن الحديث عن تحالف مع حركة "النهضة" هو أقرب لخيانة الأمانة الانتخابية إذا لم تتحقق شروطها، مضيفة أنّ "التيار" لا يريد فقط أن يكون مشاركاً في الحكومة، بل أن يكون طرفاً فاعلاً في الحكم أيضاً. وأوضحت أن شروط "التيار" التي لن يتنازل عنها ليست ابتزازاً لـ"النهضة"، وأنه سيخون الأمانة إذا دخل حكومة "النهضة" ومن لفّ لفّها من دون الشروط التي قدّمها، على حد قولها.
ومن المنطلق ذاته، كانت شروط حركة "الشعب" التي قالت إنها لن تتنازل عنها، وهو ما أكده أمينها العام زهير المغزاوي، مشدداً على أن "التحالف من أجل التحالف فقط أمر غير مطروح". ودعا المغزاوي إلى عدم ترهيب حزبه وبقية الأطراف بفزاعة إعادة الانتخابات التشريعية، لدفعها إلى تحالفات لا تناسب مبادئها ووعودها الانتخابية وتصوراتها.
وفيما شدد بقية شركاء "النهضة" المرتقبين على عدم تخوّفهم من حلّ البرلمان المنتخب حديثاً باعتباره فرضية "مستبعدة"، فإن تعثّر المشاورات في حد ذاته وتعنّت الأطراف المشاركة فيه وتصلب أغلب المواقف حولها، محل خطر بحد ذاته، لا سيما أن ذلك يأتي في فترة يسود فيها شعور بالاستياء من أداء السياسيين من قبل عموم التونسيين.
ورأى القيادي في "النهضة"، محمد بن سالم، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن مواقف الأحزاب الفائزة في البرلمان، ومن بينها حزبه، أمر غير مرضٍ، ويشي بأن هذه الأطراف لا تتعاطى بجدية مع مسألة تشكيل الحكومة. واعتبر بن سالم أن قراءة نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية تستدعي درجة من المنطقية والمعقولية في التعاطي مع تشكيل الحكومة والتحالفات، فالشعب لن يغفر أن يسقط هذا المسار، وأن تخفق الطبقة السياسية في الخروج بحكومة تنقذ البلاد من وضعها المتردي، محذراً من أن تؤدي إعادة الانتخابات "إلى عقاب في التصويت سيطاول الجميع".