وقف قيس سعيّد، ذات فبراير/شباط 2011، في ساحة الحكومة التونسية في القصبة، مكتشفاً للمرة الأولى مشاعر الشباب الجياشة الرافعة لشعارات الثورة والمدافعة عنها. وحين انصرفت آنذاك شخصيات سياسية معروفة للمفاوضات والصفقات في الغرف الفاخرة المغلقة، كان سعيّد من الداعمين لنبض الشارع وتحركاته، فأبهر معتصمي القصبة والتحم بهم. هنا تعرّف إليه المعتصمون أستاذاً منتصب القامة بصوت جهوري ولغة عربية فصحى، وكان في حضوره أثر خاص لم يمّحِ من ذاكرتهم، وجعل كثيرين بينهم يتجمعون حوله بعد 8 سنوات ويتطوعون للدعاية له من أجل أن يكون رئيساً. لم يكن سعيّد يحلم بالرئاسة قطعاً، وهو الجامعي الذي عرفه طلابه قبل الثورة (2011) بعيداً عن السياسة، حكماً ومعارضة. وفي وقتٍ كان فيه بعض زملائه من قيادات الصف الأول في نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي أو أشرس معارضيه ومنتقديه، كان يكتفي بتقديم المحاضرات في مادة القانون الدستوري لهم ثم يغادر مقر الجامعة، إذ إنه نادراً ما جمعته بهم أحاديث جانبية أو أي لقاءات خارج سياق الدرس آنذاك. أضحى سعيّد أكثر تحرراً وانغماساً في الشأن السياسي إثر الثورة، حاملاً مع مجموعة من زملائه شعار "من أجل جمعية وطنية تأسيسية"، وهو حلّ تبنّته أحزاب سياسية فيما بعد وأفضى إلى انتخاب المجلس الوطني التأسيسي في أكتوبر/تشرين الأول 2011.
لم يترشح سعيّد للمجلس التأسيسي آنذاك، خلافاً لعدد من زملائه، واقتصر حضوره في الشاشات والإذاعات على تفسير النقاط الخلافية في الدستور ليحصد تعاطفاً أكثر وإيماناً أكبر بنزاهته، وغزت عباراته مواقع التواصل وصارت من نوادر التونسيين، على غرار تعبيره: "الدستور الذي أكله الحمار". لم تتوقف مسيرة سعيّد عند هذا الحد، فقد جاب البلاد من شمالها إلى جنوبها من أجل لقاء الشباب والاستماع إلى رؤيتهم الخاصة لنظام الحكم. ولم يترشح سعيّد في انتخابات 2014، حين كانت البلاد تعيش على وقع الاستقطاب الثنائي، متفادياً وسائل الإعلام.
على امتداد السنتين الماضيتين، لم تعر الأحزاب والشخصيات المتناحرة على الرئاسة، أي اهتمام لنتائج استطلاعات الرأي التي وضعت سعيّد مرشحاً محتملاً عالي الحظوظ، ويعود ذلك لابتعاده عن الأضواء. ومع الذكرى الثامنة "للانفجار الثوري" كما يسميه، أعلن نيّته الترشح لرئاسة الجمهورية، ويعود ذلك وفق مقربين منه إلى تأكده من شعبيته واتساع الحزام الشعبي المحيط به إثر جولات ماراتونية في ربوع البلاد، فحيثما توترت العلاقة مع الدولة والسلطة الحاكمة، كان سعيّد موجوداً في صف الغاضبين والمحتجين.
"لم أنتخب في حياتي قط، وحتى إن ترشحت فلن أنتخب، ما معنى أن ينتخب الشخص نفسه؟ فالقضية ليست قضية شخصية. الأحزاب ليست قوية، هناك أحزاب كبرى شاركت في الانتخابات البلدية ولم تحقق نتائج عالية، على الرغم من التمويل الضخم وغسل الدماغ الجماعي، ولم تكن المشاركة الضعيفة عزوفاً، بل إضراباً عن الانتخابات". بهذه الكلمات أعلن سعيّد نيّته في الترشح، بما بدا وكأنه حصل بعد تفكير واضح وقراءة للساحة، فالأحزاب التقليدية وحتى أكثرها ثراءً وتمويلاً لم تعد مقنعة، والتونسيون أضربوا عن المشاركة. من هنا جاءت فكرة أن يكون المرشح المستقل من خارج المنظومة التقليدية، والذي لم تطاوله شبهات الفساد ولم يفسده التعصب لحزب أو لفكر ما.
ومع تقديم سعيّد لترشحه، وحتى في مراحل متقدمة من الفترة الانتخابية، تصارعت الأحزاب فيما بينها على الرئاسة، مجرية صفقات وترشيحات مضادة، فيما اقترب سعيّد ممَّن اعتقدوا أن الثورة سُرقت منهم وحُوِّلَت وجهتها إلى الخلف، معتبرين أن السلطة ظلت دوماً بيد المنظومة القديمة التي أعادت التشكل بعد الثورة بتحالفها مع قوى ثورية خذلتهم. كثيرون صدموا بنتيجة سعيّد وتصدّره الدور الأول من الانتخابات الرئاسية، وسقطت نظريات الاتصال السياسي التقليدية أيضاً، فالمرشح الأقل ظهوراً الذي لم تنتبه إليه الشاشات الأكثر مشاهدة والأكثر مناكفات، فاز بالمرتبة الأولى وعبر إلى الدورة الثانية، المقررة اليوم الأحد.
وبين خطاب عروبي يدغدغ مشاعر التونسيين، وخطاب ديني محافظ يستقطب شريحة واسعة أيضاً، ومقولات عن دور الدولة الاجتماعي للنهوض بالفئات الهشة وإعادة الحكم إلى الشعب للتعبير عن سيادته وممارسته السلطة، تأرجحت تعبيرات سعيّد في لقاءاته الإعلامية. ولم يمنع ذلك من تعاظم المخاوف منه ومن المشروع الضبابي الذي يهدف إلى إعادة السلطة إلى الشعب عبر حكم المجالس المحلية، ومن تحفّظه عن الغوص في مواضيع تتعلق بالحقوق والحريات الفردية. وكما دغدغ خطابه شريحة من الناخبين، نفرت فئة أخرى منه، ولا سيما مع غياب التنظيم الواضح لحملته الانتخابية، فالحزام المحيط به من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وطرحه المحافظ في باب الحريات الفردية والعامة والمساواة بين الجنسين، مثّل أيضاً محل انتقادات واتهامات بالرجعية وتهديد مكاسب المراحل الماضية.
ويرى خصوم سعيّد أنه رجل فصيح وبليغ لم تُعرف عنه شبهات فساد، وموغل في الطوباوية، لكنه خاوي المشروع ويقود جيوشاً من الطلاب المتحمسين وفيالق المتشددين، التي لم تجد لها موطئ قدم في الانتخابات. لكن من عاصره منذ صباه وعاصر تطوره الفكري ينفي عنه التهمة، ومن بينهم العميد عياض بن عاشور الذي اعتبره قادراً على التجميع أكثر من منافسه. ووصف بن عاشور سعيّد الذي كان تلميذه، بـ"نظيف اليد، وهو أمر غير قابل للتشكيك فيه"، وإن لم ينفِ عنه صفة المحافظ المتشدد، فإنه نفى أن يكون متطرفاً أو إسلامياً رجعياً.