فجأة، وضعت التحقيقات الروسية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في موقف صعب وحرج، وذلك عشية لقائه مع الرئيس فلاديمير بوتين، المقرر يوم الإثنين، إذ صدر عن هيئة محلفيها قرار بتوجيه تهمة القرصنة والتدخل في الانتخابات الأميركية، ضد 12 من ضباط الاستخبارات العسكرية الروسية.
التوقيت فرض الربط بين القمة وبين القرار، لكن بصرف النظر عمّا إذا كان التزامن مقصود أم لا، إلا أنه يطرح مصير لقاء هلسنكي على بساط البحث. لقد سبق للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما أن ألغى لقاء مع بوتين الذي وضع يده على شبه جزيرة القرم وضمّها لروسيا. هل يكرر ترامب الخطوة بعد هذه التهمة التي عززت القناعة الأميركية بأن الرئيس بوتين هو الذي أمر بالدخول غير المشروع إلى حرم الانتخابات الأميركية؟
السؤال طُرح بقوة فور صدور القرار الذي سرعان ما زاحم تغطية لقاء الرئيس ترامب مع الملكة البريطانية إليزابيث الثانية. تطور مُربك للبيت الأبيض ولفريقه الذي التزم الصمت. بدا وكأنه يراجع خياراته، ومنها تأجيل القمة التي صدرت دعوات كثيرة بضرورة صرف النظر عنها، خاصة إذا كان الرئيس لا ينوي مفاتحة بوتين بوجوب تسليم المتهمين الـ12، كما طالب السناتور الجمهوري جون ماكين.
ومن حيثيات هذا الخيار أن الأفضل للرئيس ترامب شطب هلسنكي لئلا يجد نفسه في موقف ضعيف في القمة، أو لئلا يؤخذ عليه أنه "شرعن القرصنة" وتجاوزها، رغم القرار القضائي الاتهامي الذي يفرض تغيير جدول أعمال اللقاء، بل يفرض تغيير ترتيب طاولة القمة، بحيث لا يكون الرئيس ترامب وحده مع مترجم فقط.
لكن يبدو أن الرئيس ترامب سبق وحسم أمره في الشكل والمضمون، فهو كان على علم بقرب صدور الاتهام بحق العسكريين الروس، حسب ما كشف نائب وزير العدل، رود روزنستاين، في بيانه عن القرار. ومع ذلك مضى في مشروع القمة وبالصورة التي توافق حولها مع الكرملين.
مأزقه الآن، إن تراجع ترامب عن عقد اللقاء يعني الاعتراف بشرعية التحقيقات التي طالما زعم أنها "خدعة" ووهْم، وفي الوقت ذاته لم يعد يقوى على تسويق هذا التوصيف وتجاهل الاتهام الموثّق بالأسماء والأدلة.
المخرج المرجح هو المزيد من التأزيم الذي استفحلت نماذجه في الأيام الأخيرة، من بروكسل إلى لندن إلى واشنطن. خاصة في هذه الأخيرة، إذ شهدت ساحة الكونغرس، يوم الخميس، هجمة كاسرة على التحقيقات الروسية، من خلال جلسة لإحدى لجان مجلس النواب مع مسؤول في مكتب التحقيقات الفيدرالي "إف بي آي"، كان يعمل في السابق مع المحقق الخاص روبرت مولر؛ بزعم أنه كان منحازاً ضد الرئيس ترامب. وقد بلغ التوتر والتحدي درجة كادت، لولا التقاليد المانعة، أن تتحول إلى عراك بالأيدي بين الجمهوريين والديمقراطيين. رافق ذلك تحريك في مجلس النواب لمشروع محاكمة نائب وزير العدل روزنستاين المشرف على التحقيقات الروسية، بدعوى أنه متهاون وغير مستقل، ومنذ فترة يجري التصويب عليه لإزاحته من منصبه والمجيء ببديل يقيل المحقق مولر وبالتالي يغلق ملف التحقيقات، لكن الوقت ضاغط، تقرير مولر النهائي غير مستبعد صدوره قبل سبتمبر/أيلول المقبل.
تنعقد قمة هلسنكي، يوم الإثنين، إذا لم يطرأ تغيير، في ظل وضع أميركي مكهرب كما لم يكن من قبل. الاحتقان السياسي في ذروته، الخلافات لم يسبق أن كانت بهذا العمق والكثافة، الداخلية منها مثل موضوع الهجرة واللاجئين، والخارجية، من الحلف الأطلسي إلى سورية، إلى موسكو والحرب التجارية والعلاقات مع الحلفاء الأوروبيين. يحوم فوقها كلها كابوس التحقيقات الروسية التي اقتربت طبختها من النضوج؛ فضلاً عن انتخابات الكونغرس في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل التي يتحدد معها، إلى حد بعيد، مصير رئاسة ترامب.
كوكتيل يخدم بوتين على أفضل ما يكون ويمكّنه من انتزاع صفقات بشروطه، ومنها صفقة حول سورية، يبدو أن البيت الأبيض حسمها، رغم تحذيرات بعض أركان إدارته.